لمدة ليست بالقصيرة كانت مقاربة العلاقات الدولية لموضوع الدين والعامل الديني والاعتقادي فضلاً عن الهوية الدينية نظرة خاصة، وكأنها ليس ذات صلة بمتغيرات السياسة العالمية وأحداثها تحت يافطة الإنعتاقية أو العلمانية أو الفردانية أو الفصل القسري أو الطوعي.
لكن البوصلة تبدلت اليوم، بالرغم من حجم الساحة الجدلية، الى حد أصبحت فيه ضرورة أن يُقاس ويُحلل أثر هذا العامل في جميع أنماط السياسات، هذا الاهتمام الجديد للدين يتمركز عند قاعدته في العالم الغربي حول الإسلام، منذ أحداث 11/9 وصولاً إلى صعود داعش.
مع وجود أحداث تعيد هذا الاهتمام الجيوسياسي للعامل الديني، أصبحت الهوية الدينية ركناً مهماً في منظور العلاقات الدولية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 في الولايات المتحدة، الى حد دفع بإتهامات ضد صناع القرار في واشنطن بانهم يتبعون سياسات تأخذ بنظر الاعتبار الأبعاد الدينية، وعلى العموم لم يعد بالإمكان إهمال عامل الهوية الدينية في العلاقات الدولية، لأن الدولة الأكبر في عالمنا اليوم تحف بها عشرات النظريات عن تأثير الدين في سياساتها وستراتيجياتها، بدأ من القراءة الدينية للحرب على العراق من قبل بوش الابن، وحتى الصلاة التي يدعو لها ترامب لمواجهة الوباء.
وبغض النظر عن المدارس الليبرالية أو اليسارية التي ترى في أن الدين أفيون الشعب أو كونه قيداً على الحريات السلوكية، فإن إهمال هذا العامل يعد إغفالاً لفهم تفسيرات وسلوك وهويات دول وشعوب سواء كانت علمانية سالبة أو موجبة، وسواء كانت هذه الرؤية تسعى لفهم القيم والهويات الدينية، أو توظيف الدول للدين واستعماله في العلاقات الدولية.
وكما أشرت في كتابي الأخير (الجيل الثاني للدبلوماسية: تدافع الهويات في السياسة الخارجية) إننا نعني بهوية العامل الديني في العلاقات الدولية : جميع ما تعتنقه الفواعل التي تقوم عليها العلاقات الرسمية وغير الرسمية، وتؤمن به من مبادئ وأحكام تضبط ممارستها فكراً وسلوكاً قولاً وفعلاً، وتحكم توجيهاتها سواء أكانت تلك المبادئ والأحكام أو المعايير المعتمدة في الرسالات السماوية، أو رؤى فلسفية وأيديولوجية أو موروثات ثقافية وتاريخية أو اجتماعية تمثل هويتها الاجتماعية او تدينها الشعبي.
وكما يعبر غراهام فولر Graham Fuller حين يكون الدين مرتبطاً بالسياسة، يجتمع معها عنصران هما أكثر عناصر الاهتمام الإنسان حيوية، ويستطيع التضافر بينهما أن يكون للأفضل أو للأسوأ، فالسياسة والدين كلاهما قد أستعمل أحداهما الآخر باستمرار عبر نسيج التاريخ، وفي الواقع، فإن من الغرابة أن تكون للسياسة، القدرة، في أي وقت من الأوقات، أن تبقى غير مبالية بهذه القوة المحركة القوية مثل الدين، بحجة الحيادية أو الاستقلالية.
ثمة منطقة مهمة في مساحة الدراسات الأكاديمية لم يتم تغطيتها بشكل واسع، هي موضوع ارتباط الهوية الدينية بمناهج السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي، ولا يمكن نكران هذا الدور المهم لهذا العامل في تفسير المتغيرات اليوم، لهذا يصح قول Timothy Shah ( أصبح الدين أحد العوامل الأكثر تأثيراً في الشؤون العالمية في الجيل الماضي، لكنه لا يزال العامل الأقل دراسة من حيث التأثير في الشؤون العالمية )، ولهذا نعتقد أن صعود تنظيم داعش( ISIS )قد أعاد لموضوع هوية الجيوبولتيك الديني دوره في مساحة العلاقات الدولية، كما أن تصاعد تأثير الهوية الدينية في العلاقات الدولية يرجع الى عدة أسباب منها على سبيل المثال:
1 - تنامي الحركات الدينية في العلاقات الدولية وتفرعها بشكل مباشر، وخصوصاً تلك التي تمتزج في رؤيتها العابرة للحدود الوطنية بشكل مكثف، وتمازج السياسة الداخلية بالخارجية.
2 - ظاهرة انتشار هوية الدين الشعبي الذي بدأ ينتشر بشكل واسع بين الشعوب.
3 - تنامي دور علماء الدين في العلاقات الدولية، وبرز مع ذلك موضوع الفواعل من غير الدول، وأكثر تلك الفواعل لها رموز دينية مميزة أضفت لها طابعاً شعبياً وحركياً.
4 - ظهور تطور جديد في العلاقات الدولية، تمثل في تغيير محتوى الصراع، حيث لم تعد الصراعات متجذرة في أيديولوجيات متمايزة، وأصبح أقرب الى موضوع الهويات الجماعية وأزماتها.
5 - تصاعد تأثير الجماعات الإسلامية واتجاهها نحو استنفار القوة الدفاعية للإسلام كحائط جيد أزاء الضغوط الخارجية، عقب ظهور أنماط جديدة في العمل الدولي، تمثلت بموضوع القاعدة وداعش وغيرها.
6 - تفاعل ظاهرة هويات الأقليات في العالم، وحقها القانوني والإنساني العام.
إذن لا تزال الهوية الدينية مهمة في العالم المعاصر بل وبارزة، على الرغم من الاستبسال الجديد لتيار الانفصال عن كل ما يتصل بالدين من جهة، لكن لا شك في أن ثمة إعادة إحياء سريعة ومؤثرة للدين منذ ستينيات القرن العشرين، اذا صار الدين بصراحة قوة سياسية كبرى، على الرغم أنه لم يصبح قوة ثقافية كبرى كما يراها أريك هوبزباوم Eric Hobsbawm وأنا اعتقد أنه أصبح قوة ثقافية ذات هوية عميقة جيو-اجتماعية في عصرنا الراهن وخصوصاً في مناطق مثل الشرق الأوسط.
المصدر: المدن