فی مناخ قمة عدم الانحیاز
رسا/تحلیل سیاسی- السؤال الذی یبدو ملحاً عشیّة إنعقاد قمة "الدول غیر المنحازة" فی إیران، یترکز بصورة أساسیة حول قدرة القیادة الإیرانیة فی تحویل الوهن الذی یثقل کاهل الدول المجتمعة الى عنصر قوة فی مواجهة المحور الأمیرکی – الغربی..هذا ما یحاول الاستاذ محمود حیدر الإضاءة علیه فی هذا المقال الذی ننشره بالتنسیق مع مرکز "برهان" للدراسات.

لم یعد الکلام على حرکة عدم الإنحیاز، الیوم هو نفسه الذی کان یتداول فی خلال الأحقاب التی تلت تأسیسها فی العام 1955. فلقد تغیّرت البیئة التاریخیة، التی منحت الحرکة مبرر حضورها فی میزان العلاقات الدولیة . وهو الأمر الذی حدا بکثیرین إلى الإفتراض بأن تغییراً موازیاً فی البیئة المعرفیة لفلسفة عدم الإنحیاز ، ینبغی أن یحصل کمقدمة لإعادة إنتاجها على نصاب جدید...
ولا ریب فی أن فرضیة التغییر التی یستلزمها إحیاء کتلة عدم الإنحیاز، هی فرضیة متأتّیة من الحاجة الى ملء الفراغ الذی نشأ فی خریطة العلاقات الدولیة جرّاء فشل الأحادیة الأمیرکیة التی بلغت ذروتها فی عهد المحافظین الجدد.
ولئن کانت ظروف التطور العالمی اللامتکافئ ، تملی على حکومات دول عدم الإنحیاز، وضع إستراتیجیة علیا تمکّنها من استعادة دورها من خلال التموضع فی الخارطة المفترضة للنظام العالمی الجدید، فإن الظروف نفسها تنطوی على تعقیدات تجعل مثل هذا التموضع أمراً شاقاً، إن لم یکن مستحیلاً. ولعل القول بهذا عائد الى سببین رئیسین:
الأول : إستمرار الطبیعة المتناقضة وغیر المستقرة، لحقبة ما بعد الحرب الباردة، بما تخللها من معادلات وموازین ومنظومات أمنیة وسیاسیة کبرى ملأت العالم على مدى اثنین وعشرین عاماً.
الثانی : حصول تغیّرات جذریة فی المفاهیم التی تحکم العلاقات الدولیة، و کذلک فی القواعد التی کانت ترسم الخطوط الجیو- ستراتیجیة للدول المنضویة فی حرکة عدم الإنحیاز، حیث بدا بوضوح حجم التناقض و التباعد بین کثیر من الدول الأعضاء، ولا سیما بین عضوین مرکزیین فی الکتلة هما مصر وإیران.
وإذا کانت الحقائق التی تصنع ضمن جغرافیات الشرق الأوسط هی معیار نجاح أو فشل، أی تکتل سیاسی – دولی بفعل مرکزیتها الحاسمة فی منظومة الصراع و التحالفات، فالذی یبدو ضروریاً هنا هو الوقوف على إستراتیجیة کل من الدولتین المذکورتین فی إطار کتلة عدم الإنحیاز، و کذلک فی معرفة موقعیتهما کقطبین مؤثّرین فی المدى الجیو-ستراتیجی الآفرو-آسیوی.
لو عاینا السنوات الثلاث المنقضیة التی شهدت رئاسة مصر لکتلة عدم الإنحیاز على سبیل المثال، لوجدنا إنزیاحاً بیّناً عن خط الإلتزام العملی بروحیة "مبادئ باندونغ العشرة"، والتی صارت تعرف بما سمی "جوهر الحرکة" فی توجهاتها وسیاساتها العملیة والنظریة على الصعید الدولی.
مثل هذا الانزیاح یعود الى جملة عوامل. أبرزها ، تموضع النظام فی مصر منذ توقیع بروتوکولات کامب دیفید، ضمن فضاء التحالفات التی تقودها الولایات المتحدة فی مجالی الحرب و السلم. و لقد دلّت الوقائع أن نظام حسنی مبارک وخلال فترة تولّیه رئاسة کتلة عدم الإنحیاز (2009-2012) ، قد حوّل الکتلة الى ردیف یضاف الى سلسلة الکتل و المنظمات التی لا فعالیة لها فی سیاق محاکاته وتماهیه مع الاستحواذ الأمیرکی على المنطقة و العالم . فقد ترتب على هذه المسلکیة طائفة من الإلتزامات الأمنیة و السیاسیة و الجیو- ستراتیجیة ،أفضت إلى تشکیل حزام أمن مصری ، عربی وإقلیمی حول (إسرائیل) من خلال الوفاء الصارم لنص وروح کامب دیفید.
غیر أن التحولات التی عصفت بمصر وأسقطت نظام حسنی مبارک سوف تضع "مصر ما بعد الثورة" مجدداً أمام إحتمالات و خیارات من الصعب الجزم بمآلها الختامی. و السبب فی هذا یعود إلى أن وصول حرکة الأخوان المسلمین الى الحکم، جاء وسط مناخ شدید التعقید فی المجالین الداخلی و الجیو-ستراتیجی . ما جعل الصیغة الجدیدة للسلطة محکومة بمناخ التعقید نفسه ، خصوصاً لجهة موقعیة مصر ما بعد الثورة فی الصراع حول قضیة فلسطین ومدى الإلتزام الأمنی و السیاسی بمعاهدات کامب دیفید لکن السؤال الذی یبدو ملحاً عشیّة إنعقاد قمة "الدول غیر المنحازة" فی إیران، یترکز بصورة أساسیة حول درجة التفاعل بین طهران والقاهرة ، من أجل أن یُعاد الإعتبار للقیم التی تأسست علیها فلسفة عدم الإنحیاز.
لقد شکلت الحرکة منذ نشأتها أکبر تجمع دولی (خارج إطار منظمة الأمم المتحدة). وتزاید عدد الدول الأعضاء مع تزاید عدد الدول المستقلة . فبعد أن کانت تضم 25 دولة فی مؤتمر بلغراد التأسیسی عام 1961 ، وصل هذا العدد الى 75 دولة فی مؤتمر الجزائر عام 1975. وفی مؤتمر هافانا کان العدد 95 دولة (1979) ، وفی منتصف عام 1999 أصبح العدد 114 دولة. لکنه سیصل عام 2011 إلى 118 دولة، وفریق رقابة مکوّن من 18 دولة، وعشر منظّمات غیر حکومیة.
و تُعدّ سیاسة عدم الإنحیاز أهم تطوّر طرأ على سیاسة دول العالم الثالث من أجل التحرر من الإستعمار ورفض سیاسة الکتل والإلتزام بالعمل فی إقامة علاقات دولیة سلیمة . هذه حقیقة کان اختصرها رئیس جمهوریة غانا کوامی نیکروما عشیة المؤتمر الثانی الذی عُقد فی القاهرة 1964 بالقول :"نحن ولدنا من الإحتجاج و التمرّد على الظروف السائدة فی مجال العلاقات الدولیة، والناجمة عن انقسام العالم الى کتلتین متخاصمتین" . وتعریف هذه السیاسة یستند الى تطورها من حرکة تؤکد على مبادئ السلم والأمن الدولی الى قوة سیاسیة تعمل على إصلاح النظام السیاسی و الإجتماعی والإقتصادی الدولی. وهو ما یتبیّن لنا من المعاییر التی وضعت فی المؤتمر التحضیری الذی عقد فی القاهرة سنة 1961 تتمّة لمحادثات الزعماء التاریخیّین الثلاثة : نهرو و عبد الناصر وتیتو ، وقد نصّت على ما یلی:
- یجب أن تکون الدولة المنتسبة الى الکتلة قد انتهجت سیاسة مستقلة قائمة على تعایش الدول ذات النظم الإجتماعیة و السیاسیة المختلفة ، وعلى عدم الإنحیاز، أو هی أظهرت اتّجاهاً یعبر عن هذه السیاسة ویؤیدها.
- أن تؤید الدول المعنیة دائماً حرکات التحریر الوطنیة.
- ألاً تکون الدولة عضواً فی حلف عسکری متعدد الأطراف أو عاملة ضمن تسابق الکتلتین المتصارعتین.
- إذا کانت الدولة عضواً فی اتّفاقیة عسکریة ثنائیة مع إحدى الدول الکبرى ، و عضواً فی حلف دفاعی إقلیمی ، وَجَبَ ألاّ تکون هذه الإتفاقیة أو الحلف قد أبرم عن عمد فی نطاق الصراع بین الدول الکبرى.
تشیر هذه المعاییر الى أن سیاسة عدم الإنحیاز ، لیست سیاسة إنعزال أو سیاسة حیاد قانونی، بل هی حیاد إیجابی وسلمی ولد مع حرکات التحرر العدیدة ، ومع ظهور العدد الکبیر من الدول المستقلة، وأصبحت هذه السیاسة أداة من أجل تأکید التحرر و المحافظة على الإستقلال.
لا بد من الإشارة فی هذا الصدد إلى أنه بعد إنهیار الإتحاد السوفیاتی واجهت حرکة عدم الإنحیاز، تحدیات جدیدة ارتبطت لیس فقط بنهایة الصراع شرق/غرب، بل وبخلاصة التحولات الإقتصادیة التی عرفها العالم مع ظهور "النیولیبرالیة"، وانفتاح الأسواق، وبروز ظاهرة العولمة کعامل أساسی وحاسم فی تعیین المعالم الأساسیة للمشهد العالمی.
وعلى هذا النحو رأینا کیف رکّزت المؤتمرات الثلاث : جاکرتا (1992) وقرطاجنة (1995) ونیودلهی (1998)، على تجاوز أزمة الهویة التی طرحت فی بدایة التسعینات ، والترکیز على الحاجة أکثر من أی وقت مضى إلى إحلال "نظام دولی جدید ومنصف" ، وهو ما لا یمکن له أن یتحقق إلا من خلال إصلاح منظمة الأمم المتحدة وتنظیم آلیات المبادلات، وحرکة الإستثمارات الدولیة بشکل یتفق مع تحقیق "حق التنمیة" وتجاوز الفروقات التی استمرت فی الإتّساع بین الأغنیاء و الفقراء.
"دمقرطة"التواصل الدولی
إنطلاقاً من التشدید على احترام مبدأ المساواة بین الدول بدت حرکة عدم الإنحیاز کما لو کانت الوسیلة الفضلى لتحدید دور الدول الکبرى وهیمنتها على اتخاذ القرارات السیاسیة الحاسمة . وهذا ما أدى إلى العمل من أجل تقویة منظمة الأمم المتحدة، وإدانة مبدأ استعمال حق الإعتراض (الفیتو). وقد أشار مؤتمر الجزائر فی قراراته الى ضرورة دعم الأمم المتحدة وضمان فاعلیتها، و إلى أن مجلس الأمن لا یجب أن تواجهه العقبات التی تمنعه من القیام بأداء واجباته کما نصّت علیه شرعة الأمم المتحدة . وإلى ضرورة تعدیل میثاق الأمم المتحدة استجابة من أجل إدخال القدر الأکبر من الدیمقراطیة (أی إحترام وتنفیذ قرارات الأکثریة).
کان الأساس فی تطور حرکة عدم الإنحیاز، بقاء الصراع المستمر من أجل السلم والمساواة فی العلاقات الدولیة، ومن أجل مناهضة محاولات الهیمنة فی فرض أنظمة سیاسیة أو ایدیولوجیات معینة على الدول الأخرى، وهی طریق تضامن واقعیة بین الدول التی تبغی المحافظة على بقائها و التعبیر عن هویتها من خلال التطلع الى نظام دولی جدید مناهض لکل اشکال الإمبریالیة والإستعمار و الاستعمار الجدید والتمییز العنصری، ونقض الهیمنة ورفض مناطق النفوذ ، وعدم القبول بالإحتلال والتدخل الأجنبی.
غیر أن التحولات الهائلة التی أنتجتها عولمة المجتمع الدولی فی میدان السیاسة والأمن و الإقتصاد، جعل الکثیر من المفاهیم الکلاسیکیة التی تنظم العلاقات بین الدول عرضة للتبدل و المراجعة . فإذا کان مبدأ حق النقض "الفیتو" مبدأ مذموماً فی فلسفة عدم الانحیاز، فإنّ تطورات الوضع العربی الأخیر، جاءت لتمنحه حقّانیة الإستخدام بوصفه إجراءً إستراتیجیاً ، یمنع الخلل الحاصل فی التوازنات الدولیة ویحول دون نشوب حروب إحتلال کما حصل فی العراق ولیبیا.
فی المجال عینه، ربما کان من أبرز العلامات الفارقة التی تدفع الیوم نحو بلورة منظومة توازن استراتیجی فی العلاقات الدولیة، ما یمکن إجماله على النحو الآتی:
أولاً : حدوث تحوّل فی الصورة الأمیرکیة حیال العالم، تمثّل فی انتقال الولایات المتحدة من طور التحکّم فی تشکیل نظام الأمن الدولی الى طور آخر، بدت معه الشراکة وتعددیة النظراء من أبرز خصائصه وسماته.
ثانیاً : مغادرة کل من روسیا و الصین، کدولتین عظمیین، کهف الصمت ، ودخولهما معاً فضاء الإحتدام مع المحور الأمیرکی الغربی . ولقد شکّلت إجراءات حق النقض (الفیتو) حیال الأزمة السوریة تطوراً ینطوی على دلالة جوهریة لجهة تعطیل قرار الحرب کمکوّن أساسی من مکوّنات الانفراد الأمیرکی بالقرار العالمی.
ثالثاً : تبدّل جوهری فی البیئة السیاسیة العربیة، ظهرت معالمها فی مستهل العام 2011 من خلال تحولاّت مدوّیة عصفت بالشارع العربی وأسقطت أنظمة إستبدادیة فی مصر وتونس ولیبیا و الیمن. وعلى الرغم من المشهد الرمادی الذی أسفرت عنه التحولات المشار إلیها، فقد انفتح العالم العربی وانطلاقاً من مصر بخاصة، على زمن تاریخی جدید . إنه الزمن الذی یسمح لقوى التحرر الوطنی دولاً وأحزاباً وتیارات، من وضع إستراتیجیات عملیة ترفد حرکة عدم الإنحیاز بقدرات إضافیة تتیح لها المشارکة فی صناعة النظام العالمی المتکافئ.
رابعاً : شکلت التطورات التی مرّ ذکرها، دفعاً لمحور المقاومة و الممانعة فی شبه القارة الشرق أوسطیة.. حیث تتبوأ الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة مقاماً طلیعیاً فیه. الأمر الذی یفضی بالمحور المذکور الى أخذ مساحة وازنة من القدرة تعینُه على تصویب المسار التاریخی لدول عدم الإنحیاز، کما یُمهّد لإیران السبیل لتکون شریکاً فعلیاً فی صیاغة التوازن الإستراتیجی على مستوى الاقلیم، بما لذلک التشارک من فعلیة تداعیات على الصعید العالمی.
الإستراتیجیة الإیرانیة : إستئناف جوهر الحرکة
قد یکون الخطاب الإیرانی، هو الأکثر انسجاماً وتجانساً مع ما یسمّى "جوهر الحرکة" . ومردّ ذلک الى الوضعیة الإستثنائیة التی تحتلها الجمهوریة الإسلامیة فی نظام التوازنات الإقلیمیة و الدولیة . وهو ما ینعکس بوضوح فی تأکید قیادتها العلیا على ضرورة إعادة تشکیل نظام الحرکة وفقاً للمبادئ الأصلیة التی ولد منها.
فلقد بات معروفاً أن حرکة عدم الإنحیاز تأسست إبّان إنهیارالنظام الإستعماری،وکانت جهودالحرکة،منذ الأیام الأولى لقیامها،عاملاً أساسیاً فی تصفیة الاستعمار، حیث أدت لاحقًا إلى نجاح کثیرمن الدول والشعوب فی الحصول على حریتها وتحقیق إستقلالها، وتأسیس دول جدیدة ذات سیادة. وهکذا فعلى مدار تاریخها، وعلى هذا، فقد ترکزت الأهداف الأساسیة لدول حرکة عدم الانحیاز، على تأیید حق تقریرالمصیر، والاستقلال الوطنی، والسیادة، والسلامة الإقلیمیة للدول؛ ومعارضة الفصل العنصری، وعدم الانتماء للأحلاف العسکریة المتعددة الأطراف، وابتعاد دول حرکة عدم الإنحیاز عن التکتلات والصراعات بین الدول الکبرى، والکفاح ضد الاستعمار بکافة أشکاله وصوره، والکفاح ضد الإحتلال، والإستعمارالجدید، والعنصریة، والاحتلال. والسیطرة الأجنبیة، ونزع السلاح، وعدم التدخل فی الشؤون الداخلیة للدول، والتعایش بین جمیع الدول، ورفض استخدام القوة أوالتهدید باستخدامها فی العلاقات الدولیة، وتدعیم الأمم المتحدة، وإضفاء الطابع الدیمقراطی على العلاقات الدولیة،والتنمیة الإقتصادیة والإجتماعیة، وإعادة هیکلة النظام الإقتصادی العالمی، فضلاًعن التعاون الدولی على قدم المساواة.
ما المتوقع من قمة طهران ، وإلى أی مدى تستطیع القیادة الإیرانیة تحویل الوهن الذی یثقل کاهل الدول المجموعة الى عنصر قوة فی مواجهة المحور الأمیرکی – الغربی؟
قبل أسابیع، جرى تنظیم إجتماع تحضیری للقمة. أهمیة هذا الإجتماع الذی دام لیومین متتالیین هو توقیته. فقد تزامن مع ما اتفق على تسمیته بــ"الربیع العربی" وبروز التحالف الروسی- الصینی کمحورٍ یسعى إلى کسر الأحادیة القطبیة إثر إنسحاب الولایات المتحدة عسکریاً من العراق، وحلول نظریة الحروب اللیِّنة مکان دیبلوماسیة القوة و الحروب الإستباقیة.
فی إجتماع طهران کان هناک إهتمام بارز للقیادة الإیرانیة على المستویین الدینی و السیاسی . فدول عدم الإنحیاز تحتاج الى تحدیث مشروعها وملاءمته مع المتغیرات، کما تحتاج إلى إعادة تنظیم وتحدیداً على مستوى إیجاد "أمانة عامة دائمة".
اللافت أنّ ثمة صحوة لدى جمعٍ کبیر من قادة دول عدم الإنحیاز ناجمة من شعورهم بضرورة استعادة کتلتهم التاریخیة، لیکون لها دور فاعل فی ترتیبات الأمن الدولی. وهکذا تعرض المؤتمر التحضیری فی طهران– حسب تقاریر المشارکین- الى مجالات متعدّدة منها الإقتصاد، و الإعلام، والأحادیة القطبیة الأمیرکیة، و التعددیة القطبیة و الهیمنة على ثروات العالم، وإحتکار المعلومات من جانب الشرکات الکبرى، حیث أن هناک 500 شرکة إعلامیة لیس فیها أی شرکة إعلامیة من دول العالم الثالث . وفی هذا السیاق کان ثمّة توجه لإنشاء مؤسسات إعلامیة مشترکة من نوع وکالة إخباریة مشترکة، ومؤسسات تلفزیونیة ناطقة بالإنجلیزیة، ومواقع إلکترونیة تابعة لمنظمة دول عدم الإنحیاز.
وعلى ما یبیّن الخبراء، فإن ثمة مجموعة من القضایا ستکون مدار إهتمام القمّة:
أولاً : إهتمام بتعریف السیاسات المشترکة وبناء موقف واحد من المحاور الدولیة والسیاسات الإستعماریة.
ثانیاً: وجوب أخذ إیجابیات العولمة ورفض سلبیاتها الکامنة فی محاولة أمرکة العالم.
ثالثاً : تصویب مسارات "الصحوة الإسلامیة" بحیث لا تکون مدخلاً إلى صراعات طائفیة ومذهبیة کما ترید السیاسات الغربیة عبر تشویه فکرة الحریات الإعلامیة وتفسیر "حقوق الإنسان" بما یخدم تفکیک مجتمعات المنطقة.
رابعا : التأکید على فکرة المواطنة؛ ذلک أن السیاسات التی اعتمدها "المحافظون الجدد" خلال غزو العراق کانت تنطلق من فرضیة إعادة ترکیب دول الهلال الخصیب على أساس المکونات البدائیة و القبلیة، وإثارة الخلافات بین ما هو أکثریة وأقلیة. وهذا ما کان سبق أن عبّر عنه ریتشارد بیرل– أحد أبرز منظّری المحافظین الجدد فی عهد الرئیس جورج دبلیو بوش - عندما دعا الى تقسیم سوریا ولبنان و العراق.
خامساً : حرص المؤتمر على ضرورة تعزیز العلاقات بین المسلمین و المسیحیین على قاعدة أن الأدیان تتلاقى فی محراب الله الواحد الأحد.
سادساً : إعطاء مضمون جدیدة لفکرة عدم الإنحیاز بحیث لم یعد هناک معسکرین رأسمالی وشیوعی، وبالتالی ثمة حاجة متبادلة بین روسیا و الصین من جهة، و دول العالم الثالث من جهة ثانیة لقیام تعاون یؤدی الى تعددیة قطبیة، والى تطویر المؤسسات الدولیة وأدوارها وتحدیداً الأمم المتحدة ومجلس الأمن و البنک الدولی، وصندوق النقد الدولی بحیث لا تعود هذه المؤسسات تحت وطأة الهیمنة الغربیة.
سابعاً : تربط السیاسات الإنمائیة بالعدالة وحسن توزیع الثروة وإعطاء المکان المناسب للشباب والمرأة فی صنع القرار وذلک للحؤول دون اختراق السیاسات الغربیة لمجتمعاتنا تحت عناوین مختلفة.
فی الحسابات الإیرانیة ، ومن خلال الأبحاث التی تقدّم بها کثیرون -إیرانیون وغیر إیرانیین- کان ثمة رهان على إرادة الجمع والتلاقی فی زمن یبدو فیه العالم سائراً نحو التحرّر من توتالیتاریة ما بعد الحرب الباردة . سوى أن ما یضاعف من الأبعاد النهضویة و التاریخیة للرهان الإیرانی على جدوى القمّة ، أن "الجمهوریة المضیفة" أفلحت فی تقدیم نموذج إستقلالی على المستوى السیاسی و العسکری و الإقتصادی تحدیثی على مستوى التصنیع والطاقة النوویة وهو ما کانت الدول الکبرى تعتبره حکراً علیها.
فی مناخ القمة المرتقبة تعود أسئلة الشک لتلقی بظلالها على أصل الأطروحة التی قامت علیها کتلة عدم الإنحیاز . ثمة من یذهب الى القول بعدم جدوى الإستمرار بالصیغة التقلیدیة للکتلة بعد انتفاء المبرر التاریخی لنشوئها وولادتها. آخرون وجدوا ضرورة الحفاظ على الکتلة کتجمع دولی، و بالتالی ضروة وضع مفاهیم وقواعد عمل جدیدة تتلاءم وحرکة الاستقطاب الذی راحت تظهر علائمها بالتوازی مع التجمعات والاتجاهات الدولیة الناشئة و المناوئة للأحادیة الأمیرکیة . ولعل تجمعات مثل رابطة دول البریکس، ومنظمة شانغهای، و التنسیق الجیو-ستراتیجی بین روسیا و الصین وإیران حول قضایا حیویة کقضیة الأزمة فی سوریا ، إنما تشکل عاملاً مشجعاً لبث حیویة التجدید والإلتقاء بین دول عدم الإنحیاز.
أما إیران التی تترأس الدورة الحالیة وتستضیف القمة المنتظرة، فهی تدرک بعمق مسار التحولات فی النظام الدولی . وهو الأمر الذی یجعل من القمّة فرصة تاریخیة لترسیخ التعددیة القطبیة سعیاً الى نظام عالمی متحرّر و متوازن.
محمود حیدر
رئیس مرکز دلتا للأبحاث المعمقة-بیروت
----
تنویه: اضطررنا إلى تغییر عنوان المقال من " الإنحیاز الإیجابی بدیلاً من عدم الإنحیاز" إلى العنوان أعلاه تجنبا لکل إلتباس قد یوحی به العنوان الأصلی، مع الاعتذار والتقدیر للکاتب.
ارسال تعليق
لن يتم الكشف عن الآراء التي تتضمن إهانات للأفراد أو الإثنيات أو تؤجج النزاعات او تخالف قوانين البلاد و التعالیم الدينية.