
لیس هناك تعبیر عن تعثر المسار الثوری فی تونس أكثر دلالة من الاجواء التی سادت فی الذكرى الثانیة لانتصار الثورة فی تونس، وهی التی كانت فاتحة عهد الثورات التی اسقطت أنظمة طاغوتیو واستبدادیة فی المنطقة.
فالاجواء لم تكن الا فرصة للتعبیر عن الخیبة، والتظاهر احتجاجا على واقع المراوحة، بل وللتحسیس بالمخاطر التی تواجه السلم الأهلی ومجمل المكتسبات التی حققها الشعب التونسی بعد عقود من الزمن وفی ظل انظمة شمولیة عطلت الكثیر من تطلعاته كما ارتسمت مع اهداف النضال الوطنی فی عهد الاستعمار الفرنسی.
تبدو السلطة الانتقالیة القائمة فی اعین المواطن التونسی، سلطة مستغرقة فی مراكمة المكاسب السیاسیة، مشغولة بترتیب وضعها فی السلطة وتعزیز هیمنتها على مفاصل الدولة الحیویة، وتتهم حركة النهضة الاسلامیة ذات الثقل الأكبر فی الترویكا الحاكمة أكثر من غیرها فی هذا السیاق بخدمة أهداف الهیمنة وتجییر مرحلة ما بعد بن علی لحسابها الموصول بأجندات دولیة وإقلیمیة؛ تحسب على الترتیبات الأمریكیة للمنطقة على قاعدة تعمیم النموذج التركی الاخوانی كبدیل مقبول وممكن عن الأنظمة المشطوبة جماهیریا وأمریكیا.
فقد كان من الطبیعی ان تمر تونس من وضعیة اقتصادیة صعبة فی هذه المرحلة الانتقالیة، وأن یعرف الوضع الاقتصادی انهیارات وهو الوضع الذی كان یوحی للمراقب ببعض التماسك على زمن بن علی بسبب الدعم المالی والاقتصادی المنقطع النظیر الذی تمتع به نظام بن علی الذی كان یقدم نفسه كحامی للضفة الشمالیة للبحر الابیض المتوسط من الخطر الإسلامی، هذا فضلا على التوقعات العفویة للجماهیر من عوائد كل تغییر وبالأخص إذا كان بحجم ثورة.
وفی التقدیر المتواضع فالفریق الذی جاء الى السلطة لم یحسن تدبیر المرحلة الانتقالیة، كما أنه لم یعر كبیر اهتمام لحساسیة الواقع الاجتماعی وانتظاراته، وفی هذا السیاق یمكن الإشارة إلى مشروع قانون تعویض المعتقلین السیاسیین والمنفیین عن سنوات المحنة، ومعظمهم من منتسبی حركة النهضة، فی الوقت الذی كانت جماهیر الكادحین تتنظر تدابیر حكومیة استعجالیة للوفاء ببعض مطالبها الاجتماعیة الملحة، وإلى حدود الشهر الجاری ظلت احتجاجات عائلات ضحایا الثورة متواصلة أمام المجلس التأسیسی حیث یُتهم بالتقصیر فی تسویة ملفات المتضررین منذ أكثر من عام على تشكیله.
بل ان سلم الاولویات اضطرب لدى الفریق الحاكم، فبدل الاهتمام بالوضع الاقتصادی وضبط التوقعات الشعبیة ضمن سقف الممكن والمعقول، بادرت النخبة الحاكمة إلى توریط تونس فی الملف السوری حین اصطفت على یمین قطر واستبقت قرارات الجامعة العربیة من خلال طرد السفیر السوری، وزادت من هروبها إلى الأمام باستضافة مؤتمر ما یسمى ب(أصدقاء الشعب السوری)، ما اعطى الانطباع لرجل الشارع العادی بأن تونس الثورة تقزمت وهی تدور فی فلك دولة صغیرة ونكرة بالمعنى التاریخی والثقافی تسمى قطر.
وما زاد من حالة الإحباط هو العربدة التی مارستها التیارات السلفیة بالاعتداء على الأشخاص والممتلكات، والشروع فی عملیة ممنهجة لحرق الأضرحة فی استفزاز قاس لمشاعر التونسیین الذین یوقرون هذه الاضرحة ویعتبرونها جزءا من ثقافتهم وموكنا من مكونات تدینهم. وهنا أیضا توجهت أصابع الاتهام لحركة النهضة بكونها تتغاضى عن اقترافات السلفیین وتبرر تهدیدهم للسلم الاجتماعی بحریة الفكر والمعتقد!، بل شرعت أبواب تونس لمشایخ السلفیة فی الخلیج لیقیموا الدورات الدینیة، ویعتلوا منابر مساجدها طوافین على كلّ محافظاتها. فیما ذهبت النخبة الى الحدیث عن استثمار الغلو السلفی لترهیب العلمانیین والیساریین لإخضاعهم سیاسیا وثقافیا، وللقبول بسلطة حركة النهضة على اعتبار أنها أهون الشرور.
لا شك أن المعادلة ما بعد الثورة صعبة ودقیقة، فمن جهة هناك التركة الثقیلة التی خلفتها مافیا الرئیس الهارب، ومن جهة ثانیة أن الفریق الحاكم وفی مقدمته حركة النهضة وجدوا أنفسهم یعیشون نقلة كبیرة، من صیاغة البیانات السیاسیة المعارضة لحكم بن علی إلى الحكم وتدبیر مرحلة صعبة عادة تعقب نجاح كل ثورة، وفی ضوء هذه المعادلة یتأكد أن الثورة بحاجة إلى قائد بخصائص قیادیة هو الأقدر للعبور بالجماهیر من المرحلة الانتقالیة إلى الأوضاع المستقرة..القائد هو من یستطیع أن یجعل الشعب یندفع بكل طاقاته لاستكمال المسیرة الثوریة اكثر من التفاته إلى الثمرات المبكرة لثورته على الصعیدین الاجتماعی والاقتصادی، والقائد هو من یتحول الى صورة الأحلام والتطلعات الكامنة فی أصل كل ثورة.
وها نحن أمام تجربة ثورة فی تونس، فجرها الشعب وقادها الشباب، ثم جاءت تیارات سیاسیة إلى الحكم، وكل فریق یعمل على تعزیز مواقعه فی السلطة، فیما تجتهد حركة النهضة على ربط تونس بالدور القطری وتهادن السعودیة التی توفر الملاذ الآمن لسفاح تونس ولصّها الأكبر.
تبدو الثورة فی تونس مجهضة وباهتة فاقدة للبریق..عامین بعد الثورة یمكن تلخیصها فی خطط للاستئثار بالسلطة، وحالة احتقان اجتماعی تشمل كل تونس، ووضع اقتصادی یقترب من الكارثة، وعربدة سلفیة تتعالى على موجبات القانون والأمن..وهویة ثوریة تسحق بربط تونس بقطر، وبرفض النهضة لعدم تضمین مشروع الدستور قید الإعداد نصا یجرّم التطبیع مع الكیان الصهیونی.
وكل ثورة وأنتم بألف خیر.