على مقعد الشهید الکبیر والمجاهد العتید أحمد یاسین(رحمه الله) جلس، تلحف ببقیة من عباءة الشیخ التی استشهد فیها وهو خارج من المسجد، شمخ بأنفه وهو یسمع إطراءً لیس له نظیر؛ احتمله قلب اسماعیل هنیة رئیس حکومة "حماس" قبل لسانه حین وصفه بالإمام الأکبر وسلطان العلماء وحجة الله على أرضه!
قبل ذلک حصل القرضاوی على جواز سفر فلسطینی، ما حمل وزارة الداخلیة التابعة لسلطة محمود عباس الى اصدار بیان اعتبرت فیه الجواز مزورا ودعت الانتربول إلى ضبط حامل الجواز واسترداده وفق القانون الدولی.
فی بیت الشهید أحمد یاسین القى القرضاوی کلمة مقتضبة عبر فیها عن فرحته بزیارة غزة وأشاد فیها بحرکة "حماس" قبل أن یزعم أنه کان یتمنى بأن یُقصف بصاروخ اسرائیلی لیکون فی عداد الشهداء!
بعد ذلک انتقل القرضاوی مباشرة إلى المسجد العمری الکبیر فی مدینة غزة لإلقاء خطبة صلاة الجمعة والتی سنتأمل فی مضمونها لأن ذلک قد یساعد فی کشف أبعاد زیارة القرضاوی إلى غزة، وهی الزیارة التی لم تکن محط ترحیب من قوى سیاسیة غزاویة ولا فئات من جماهیر الشعب الفلسطینی داخل وخارج الاراضی المحتلة.
فی الشق السیاسی من خطبة الجمعة رکز القرضاوی على جوانب مبدئیة أو لنقل عمومیات، متجنبا الحدیث عن تدنیس الأقصى الذی غطت أحداثه المؤلمة والخطیرة على زیارته المشبوهة لغزة، کما لم یتطرق لموضوع التسویة فی آخر حلقاتها المخزیة والمتمثلة فی مبادرة وفد متابعة مبادرة السلام العربیة المنبثق عن مجلس وزراء الخارجیة العرب والمتمثلة فی عرض سخی بالتنازل للصهاینة عن أراض فی مقابل أراض أخرى، کما لم ینبس ببنت شفة عن الحصار الذی لا زال مطبقا على أهالی القطاع، وتکفی هنا شهادة وفد نقابة الأطباء المصریین والذی زار قطاع قبل أیام قلیلة حیث أکد تقریر الوفد أن الوضع الصحی بالقطاع مأساوی للغایة؛ حیث ینتشر بشکل کبیر مرض الفشل الکلوی وأمراض الدم، کما سجل الوفد عجزا کبیرا فی مخزون الأدویة الأساسیة فی أکثر من 200 صنف دوائی وصلوا إلى القیمة الصفریة منها أدویة الأورام وأمراض الدم والغسیل الکلوی والضغط والسکر.
و إذ یتجاهل القرضاوی ذلک فعن قصد وتصمیم، سنوضحه لاحقا.. لکنه اکتفى بالقول "انتصرت غزة على سلاح (إسرائیل) ومَن خلفها، وخرجت من معرکتها وهی منتصرة، وما تزال مصرة على المسیرة، حتى یأتی أمر الله، وینتصر الحق على الباطل، والعدل على الظلم". وطبعا فهو یعرف قصة السلاح الذی صنع انتصار غزة ومصدره وهویته، وضمن ایة استراتیجیة یندرج کل ذلک، لکنه یدس رأسه فی التراب.
ودون أن یورط نفسه فی انتقاد التخاذل العربی تجاه قضیة فلسطین، لأن هذا التخاذل سیتحول إلى التزام بل الى تجند فی معرکة المصیر بسوریة، أعرب عن ثقته بنصر الله لأهل غزة، "لأنهم أصحاب حق، وصاحبه سینتصر على الباطل"، وجدد تأکیده أن "فلسطین ستعود إلى أهلها، وأن الحق سینتصر مهما طال الزمان أو قصر".
وبعد أن قفز عن العناوین الأساسیة فی القضیة الفلسطینیة بخبث، حاول ان یربط وبخبث أیضا بین قضیة تحرر الشعب الفلسطینی وبین أطوار المؤامرة التی تجری فصولها المؤلمة على الأرض السوریة، یقول: "إن الشعوب دائماً تقف ضد الطغاة، ولا بد للمظلوم أن ینتصر یوماً، مؤکداً أن الشعب السوری سینتصر على نظامه، وأن کل من یؤید النظام السوری بالمال أو السلاح؛ سیحاسب على فعلته، مشدداً أن الشعب السوری مظلوم، و"سیؤیده الله بروح من عنده".
وفی الدعاء قبل ختم خطبته دعا لقطر والسعودیة وترکیا باعتبارها حکومات داعمة للمقاومة!!
فهل هناک من ربط بین زیارة القرضاوی لغزة وبین مبادرة الوفد الوزاری العربی الأخیرة بقیادة قطر؟ وهی المبادرة التی اشتملت على مزید من التنازل للصهاینة فی أفق وضع قطار التسویة على خط السیر من جدید، فالتحالف الرجعی العربی الإسرائیلی فی الملف السوری یدرک الحاجة إلى الإیهام بحصول اختراق فی جمود التسویة على المسار الفلسطینی، فمن دون ذلک یبدو الحلف الصهیونی الرجعی فضائحیا.. فهل وظف القرضاوی صلته بقادة "حماس" لاقناعهم بالقبول -ولو تکتیکیا- بهذه المبادرة وتجنب انتقادها، من منطلق أن الدخول الاسرائیلی الواضح على خط الأزمة السوریة أصبح حاجة استراتجیة بعد أن عجزت المجموعات المسلحة فی تحقیق هدف إسقاط النظام فی سوریة.
لا نشک فی ذلک، وبالعودة إلى خطبة القرضاوی فی المسجد العمری، نلاحظ کیف أنه تجاهل ما یتعرض له المسجد الأقصى من انتهاکات من قبیل الصهاینة، وقد انذرت فعالیات مقدسیة أن مخطط التقسیم الذی تعرض له الحرم الابراهیمی بمدینة الخلیل قد یتکرر فی المسجد الأقصى، وهو إذ یتجاهل مخطط صهیونی بهذه الخطورة فذلک لأنه مبرمج سوریا، فلا یرید لأی شیء أن یحوّر الوجهة عن المؤامرة فی سوریة، ثم هو لا یرید ان یفتح ملف الاقصى لأن ذلک یقوده حتما إلى إدانة التقاعس العربی، فی حین أن الأعراب یقومون "بواجبهم المقدس" فی تدمیر سوریة وتقسیمها، وفی ذلک تکفیر عن کل تقصیرهم بحق الشعب الفلسطینی وقضیته!
أما سکوت القرضاوی عن الحصار المتواصل على غزة حتى بعد قیام دولة الإخوان فی مصر، فلکی لا یحرج الإخوان المسلمین فی مصر، وهم فی الواقع لیسوا بأفضل من الرئیس المخلوع فی حصارهم لقطاع غزة التزاما بتعهداتهم لأمریکا و(إسرائیل)، وتکفینا هنا شهادة وفد نقابه الأطباء فی مصر برئاسة الدکتور محمد عثمان وکیل النقاب عن الکارثة الصحیة فی قطاع غزة.
وفی المحصلة النهائیة فهو باع لأهل غزة الهواء کما یقال إذ دعاهم "إلى الصبر على ما هم علیه، من جور الاحتلال، والاستمرار فی بناء بلدهم"!، مفضلا عدم إحراج المحور الرجعی المتآمر على فلسطین وسوریة.
إن الخطیر فی زیارة القرضاوی لغزة أنه کرّس للإمارة الإسلامیة فی القطاع بقیادة "حماس"، فالحسابات الدولیة للإخوان المسلمین المتناغمة مع المخطط القطری والترکی، تقتضی تغلیب مصلحة الإخوان على کل اعتبار آخر، حتى وإن کان ذلک مصلحة وطنیة راجحة، وبالتالی فإن استقلال إخوان "حماس" ضمن هذا الشطر من ارض فلسطین (القطاع) مقدم على الوحدة الوطنیة التی قد تفقد "حماس" معها هامش المناورت الذی تتمتع به الآن.
والأخطر من ذلک أن رسالة القرضاوی لغزة هی أن حسم الملف السوری بمشارکة إسرائیلیة، هو المدخل لحل فلسطینی ضمن شروط اسرائیلیة، وقد جاءت المبادرة القطریة المغلفة بکومبارس عربی لتعلن إذعانا عربیا رسمیا قوامه لیس تبادل أراض فلسطینیة باراض اخرى، بل جوهره مقایضة سوریا فی مقابل أی اراض فلسطینیة لحکم ذاتی منقوص مع شطب القدس وحق العودة.
وللأسف فقد رضیت حکومة "حماس" التی لم تبخل علیها سوریة قیادة وشعبا بأی دعم بأن تکون منطلقا لهذه الرسالة الخطیرة.
إنه یوم خزی ل"حماس"..ویوم أسود فی مسیرة کفاح الشعب الفلسطینی.