فی الأدبیات السیاسیة الرائجة لا نعثر إلا على صیغة واحدة فی موضوع جدل الثورة والدولة وهی صیغة تکاد تکون نمطیة إلى حد بعید، فبحسب هذه الصیغة فإن کل ثورة ومن خلال الاستقراء التاریخی تتراجع أمام الدولة، وبتعبیر أدق تنسحب من مجرى الحدث وتفسح فی المجال للدولة باعتبارها الولید الشرعی للثورة والمتعهد المفترض لصیانة مبادئها وشعاراتها. ولأن الدولة بطبیعتها نزّاعة إلى التغول بل هی "الوحش" نفسه حسب تعبیر"میکیافلی" فإنها تنقلب أول ما تنقلب على الثورة لتهذب من جموحها وتضبط إیقاع حرکتها على وفق المعادلات السائدة، وغالبا ما تتعاطى - أی الدولة- بشکل براغماتی مع الإرادة الشعبیة الصانعة لحدث الثورة فتعلی من شان الدولة باعتبارها المجسد القوی لمبادىء الثورة ویتحول بموجب هذا کله ای نقد موجه للدولة إلى تآمرعلى الثورة.
فی الثورة البلشفیة(1917م) نستطیع أن نقرأ بیسر هذا الانتقال من ثورة تحکمت فیها المبادىء المارکسیة وتأسست على شعارات العدالة الاجتماعیة إلى دولة مرکزیة؛ هی فی الواقع دولة الحزب الشیوعی الحاکم، تحول حدث الثورة إلى معطى تاریخی مهم فی بدایة القرن العشرین استنفد وظیفته التاریخیة باسقاط حکم القیاصرة وبناء دولة الحزب التی اخذت على عاتقها استکمال مهام البناء الاشتراکی ومواجهة الغرب الرأسمالی، لکنها بوصفها دولة تحتکر الحقیقة فسنجدها - خاصة مع مجیء "ستالین"- تصادر الارادة الشعبیة بل وستنزع نزوعا قمعیا اتجاه کل الاطروحات الاخرى بما فیها اطروحات (الرفاق) من حجم "لیون تروتسکی" صاحب کتاب"الثورة الدائمة"، بل ستنحو منحى قهریا ترهیبیا اکثر فی عهده، وسیتکثف اختزال الدولة فی شخصه، فلم تعد الدولة دولة حزب بل ستتحول الى دولة الشخص؛ تشخصنت الدولة فی عهد "ستالین" وصارت تعبیرا عن مزاجه وقسوته، ومحض استجابة بلا رادع انسانی او اخلاقی لشکوکه وتوجساته، تقترف باسم مصلحة الحزب جرائم وفضاعات وصلت حد الاقتلاع لقومیات من اوطانها وتذویب قسری لقومیات اخرى فی قومیات اکبر.
اما الثورة الفرنسیة (1789م) فان وظیفتها التاریخیة تکمن فی وضعها حدا لحکم الاقطاع وهیمنة الکنیسة وإعلانها التاریخی المتمثل فی "اعلان حقوق الإنسان والمواطن"، وهوالإعلان الذی تکفل بمنح الحقوق الأساسیة لکل المواطنین، بما فی ذلک الحریة، والملکیة، والأمن ومقاومة الظلم.. بالإضافة إلى ضمان وجود حکم نیابی، وفتحها - ای الثورة - على صیرورة التحول نحو الدیمقراطیة باوروبا؛ بحیث لم یعد احد من ملوک أوروبا او أی جماعة تنظر إلى سلطاتها کشیء مطلق أو تتجاهل مُثُل الحریة والمساواة.
لکن فرنسا التی انتصرت لحقوق الانسان فی أوروبا لم تلبث ان طفقت تنشر الموت فی مستعمراتها وتنکل بالشعوب المستضعفة فی افریقیا وبعض دول اسیا، واذا کانت الثورة الفرنسیة بعد استنزافات داخلیة دامیة قد انتهت بسیطرة نابلیون على السلطة فانها شهدت فی الآن نفسه انتصار الدولة التی تـمّ لها الحسم، وانطلقت معه فی طورها الامبراطوری الجدید نحو التوسع، لکن على قاعدة ما استحدثته الثورة من أوضاع سیاسیة وطبقیة وکنسیة جدیدة..
فی کلا النموذجین الفرنسی والروسی، الثورة لیست سوى تعبیر عن لحظة تاریخیة؛ عن مخاض تاریخی یستنفد مداه مع قیام الدولة، ولا یعنی هذا تبخیسا للقیمة التاریخیة لهذه الثورة أو تلک، بقدر ما الامر هنا مجرد توصیف تاریخی، وتأشیر على سقف الزمن الثوری الذی انتهت عنده الثورتان، ولمزید من الإیضاح فان الثورة فی کلا النوذجین مثلت قطیعة تاریخیة مع اوضاع سابقة وافتتحت صیرورة جدیدة؛ لکن دون ان یعنی ذلک ان هذه هذه الصیرورات الجدیدة جسدت بالضرورة کل شعارات هاتین الثورتین، فالدولة "الستالینیة" وفی سیاق هذه الصیرورة الجدیدة کانت اکثر قمعا وتسلطا من سابقتها فی العهد القیصری، بل ومتنکبة عن مقتضیات العدالة الاجتماعیة التی بشّرت بها. ونفس الأمر بالنسبة للسیاق التاریخی الجدید الذی افتتحته الثورة الفرنسیة، فهو وإن کان قد أسس لسیادة مرجعیة حقوق الانسان فی المجال الاوروبی فانه تعامل باحتقار وازدراء مع الانسان(الآخر) فی المستعمرات الفرنسیة، ولازالت فرنسا إلى الیوم تتعاطى بازدواجیة المعاییر فی قضایا حقوق الانسان .
أما فی نموذج الثورة الاسلامیة؛ فقد کان نجاح الثورة مبهرا فی صیاغة معادلة جدیدة للعلاقة المعقدة دائما بین الثورة والدولة، فجاءت هذه الصیغة قائمة على التوازن والتکامل، والتعایش الخلاق إن على صعید السیاسات والتوجهات أوعلى صعید المؤسسات، فلا الثورة استغنت عن الدولة لأن هذه الاخیرة کانت فی مشروع حرکتها منذ أن تبلورت معالم الحکومة الاسلامیة فی مشروع الامام الخمینی(قده) فی بدایة حرکته الثوریة، وفی تلازم مع مسألة ولایة الفقیه التی اخذت مع الامام الراحل تبلورها العمیق، ولا الدولة من جهتها سعت لأن تضیق الهامش على الثورة، أوتستدمج الکثیر من تعبیراتها أو مؤسساتها، بل نجدها تتعایش الى جانب المؤسسات التی استحدثتها الثورة سواء کانت مدنیة او خدمیة او حتى عسکریة کالحرس الثوری، او شبه عسکریة کقوات التعبئة (البسیج)، بل نفس الدولة تحولت إلى مدماک فی مشروع الثورة، لا لأن هذه الدولة قامت على أساس المبادىء والشعارات الثوریة وووفق ارادة واختیار جماهیر الثورة فحسب، بل لأن طبیعة الدولة الناشئة (دولة الثورة) فی بنائها الدستوری والقانونی أوجدت هذا التکامل الداخلی بین السلط والمؤسسات، فالنظام جمهوری واقتضى ذلک مؤسسة رئاسة الجمهوریة التی تحتکم الى الاختیار الشعبی الحر، مع ما ینشأ عنها من مؤسسات تتقوّم بها الدولة الحدیثة. وهناک مؤسسة ولایة الفقیه التی تقتضیها اعتبارات فقهیة وعقلائیة والتی تعبرعن سلطة الولی الفقیه ووظائفه الشرعیة والدستوریة، کما تعبر من جهة بعض حیثیاتها عن الاستمراریة الثوریة. فعلى قاعدة المبادىء الاسلامیة الکبرى للثورة، ووفق منظورها الخاص فی الصراع والذی تحدد فی - اطروحة الثورة- فی کونه صراعا بین المستضعفین والمستکبرین، وفی مقولة الاستکبار العالمی وعلى راسه امریکا؛ وسّعت الدولة او بتعبیر ادق مؤسسة الدولة من هامش حرکتها حد الاصطدام بالتوجهات الاستکباریة لبعض القوى کما هو الحال فی موضوع (الإرهاب) الذی یراد له ان یکون شاملا حتى لحرکات المقاومة، او فی موضوع الملف النووی الایرانی، او غیرهما کثیر من النماذج.
انطلقت الدولة وهی تحمل فکر الثورة ورؤیتها وتتقید بخطها ونهجها إلى الأروقة الدولیة، تکیفت الدولة مع الحد الادنى مما تقتضیه الضرورة فی العلاقات الدولیة لکنها ظلت تتنفس دوما من رئة الثورة. والثورة من جهتها اکتسبت نضجها وهی تحرص بأن لا تتعارض مع الدولة او تحرج اداءها على صعید العلاقات الدولیة. وفوق هذا وذاک کانت تتأمن دائما مساحات للشراکة فی الموقف وحتى فی الفعل لدرجة التماهی المطلق، فمنطق الدولة والاعتبارات الدبلوماسیة لم یمنعا - مثلا- رئیس الجمهوریة السابق محمود احمدی نجاد من التصریح تکرارا بان (إسرائیل) ستزول من الخارطة، بل لا یمکن لای متتبع للتجربة الإیرانیة أن یعطی دلیلا واحدا عن رجحان مصالح دولتیة (نسبة الى الدولة) على حساب الالتزامات الثوریة، وکلما ترجّحت المبادىء والالتزامات على المصالح فاننا امام منطق الثورة حتى وان تعلق الامر بمواقف دولة وسلوک دولة هی عضو کامل العضویة فی المنتظم الدولی.
وبعد 35 سنة من انتصار ثورتها المبارکة، ها هی إیران تفند مقولةً صارت بمثابة قاعدة فی الفکر السیاسی؛ القاعدة التی مؤداها استحالة تعایش الثورة والدولة، لأن الدولة تستوعب الثورة وتنهی مفعولها الوظیفی. فإیران وکما العهد بها هی نفسها إیران الدولة ذات التوجه الثوری..الدولة المتمحضة فی هویتها الدینیة والثوریة والحاملة فی الآن نفسه لملامح حداثتها المتفردة.
وختاما نقول؛ یحسب لإیران هذا النجاح النوعی فی صیاغة معادلة خلاّقة لجدل الثورة والدولة، معادلة یستحیل معها انفکاک هذه عن تلک، کما یستحیل معها اختلال التوازن لصالح احد طرفی المعادلة.