(لقد حقق الإمام الخمینی حلم الأنبیاء علیهم السلام- الشهید محمد باقر الصـــدر(قدّس سرّه),
تمثل ذکرى انتصار الثورة الإسلامیة فرصة متجددة لتعمیق الفهم بواقعة الثورة الإسلامیة وبشخصیة مفجرها وقائدها، وبالتأمل فی المُنجز الدولتی المرتبط بها والمتصل بأهدافها وتطلعاتها، وهی فرصة أیضا لإعادة اکتشاف القیمة الإستراتیجیة؛ قیمة الثورة فی سیاقها التاریخی وفی جدلها الدینی، فقد مثلت الثورة شرطا تاریخیا سمحت باستکشاف قدرة الدین لیس فقط على التثویر الجماهیری وتأطیر الصراع بمفاهیمه الخاصة، بل وأیضا لاختبار قدرة الدین على التأسیس لنهضة شاملة وصیاغة نمط فرید من الاجتماع السیاسی، واجتراح الإجابات عن أسئلة الراهن المتشابکة على خط سیرورة التأهیل المتدرّج لتجربة سیاسیة إسلامیة ذات آفاق ومدایات حضاریة وإنسانیة.
وسنحاول فی هذا المقال مقاربة الثورة فی السیاق التاریخی للکشف عن قیمتها ومفاعیلها، ثم سنتحدث عن خطها وهویتها، من منطلق أنّ التحدی الأبرز الذی تواجهه کل ثورة یقع غالبا فی مربّع الهویة.
حین لفت تصاعد الحراک الثوری فی إیران الأنظار إلیه؛ فی أواخر عام 78 کانت الأمة تمر من أصعب فتراتها، بل یمکن القول أن مؤشرات لحظتها التاریخیة کانت کلها سالبة؛ فعلى صعید قضیة الأمة المرکزیة؛ فلسطین، اقترف رئیس جمهوریة مصر "السادات" اکبر خطیئة بتوقیعه لاتفاقیة کامب دیفید مع (إسرائیل) والتی خرجت مصر بموجبها من دائرة الصراع. أما الحرکة الإسلامیة ممثلة فی حرکة الإخوان المسلمین سواء فی مصر أو عبر امتداداتها فی معظم الأقطار العربیة، فقد أصابها الإعیاء والجمود وظهرت علیها أعراض التکلّس، ووجدت أطروحتها المبسّطة صعوبة فی مسایرة ما کان یظهر من تمساک منهجی على صعید المشاریع القومیة والمارکسیة، فقد کان عقد السبعینات العصر الذهبی للیسار المارکسی فی العالم العربی، بل کان إیدیولوجیة الوقت فی أوربا وأمریکا اللاتینیة والعدید من بلدان آسیا وإفریقیا.
لقد أدى التوظیف السیاسی للدین من قبل الأنظمة العربیة الحاکمة، وقدرة السلطة السیاسیة على تجییر المؤسسة الدینیة لخدمة الاستبداد وتغطیته إلى خلق ردود أفعال مشککة فی الدین نفسه؛ من کونه مبّرر للاستبداد ومعوّق لانبثاق دینامیة التحرّر والتغییر، وهو الموقف الذی کانت تدعمه للأسف القراءة التاریخیة للتجربة السیاسیة فی الإسلام.
وما فاقم من أزمة المشروع الإسلامی قبل واقعة الثورة، أنّه لم یکن منیعا أمام منسوب ولو محدود من الاختراقات السلفیة، وقد تجلّى ذلک على سبیل المثال فی الموقف من المرأة، حیث لم تعبأ الحرکة الإسلامیة کثیرا بقضیة المرأة، ولم توسّع لها احتضانا ضمن أطرها التنظیمیة، وإن رحبّت بمستوى بسیط من حضورها ضمن قاعدتها الشعبیة.
وهکذا فقد کان التردی والإحباط فی صفوف الجماهیر وانعدام الأفق، وغربة الإسلام وتوظیفاته السیئة واستحکام الهیمنة الأمریکیة فی منطقة الشرق الأوسط فی سیاق الحرب الباردة، والمخاطر التی کانت تندر بتصفیة القضیة الفلسطینیة بعد اتفاقیة کامب دیفید وفتح البوابة أمام حرکة المشروع الصهیونی فی المنطقة للسیطرة تحت عناوین التطبیع والسلام، ثم ما کان من القبضة الوهابیة المتسللة عبر الدعم المالی إلى الکثیر من الحرکات الإسلامیة المحبطة.. کانت هذه بعض معالم وعناوین الزمن ما قبل ثوری المتصاعد وهجا کبشارة الأنبیاء من طهران.
من بین مفردات هذا السیاق الذی لم یکن یرشح بما یطمئن عن واقع الأمة أو یسمح بتوقّع انفراج فی مستقبلها، کانت الثورة تقترب من لحظة قطافها الموعود، ومع سقوط کل کوکبة جدیدة من الشهداء کانت تقترب أکثر من لحظة الانعطافة الکبرى فی التاریخ.
فی جواب الإمام الخمینی (قده) حین سأله احد الصحفیین وهو فی إقامته بضاحیة باریس "نوفل لوشاتو" عن أهم ما تمتاز به الانتفاضة الشعبیة الإیرانیة؟ قال الإمام:" إن أهم میزة فی هذه الانتفاضة أنها انتفاضة إسلامیة وتدافع عن قضایا المستضعفین..وأنها انتفاضة تطالب بالتغییر الجذری فی جمیع أبعاد المجتمع الإیرانی والمتمثل فی إسقاط الشاه وتغییر النظام الشاهنشاهی وتأسیس حکومة إسلامیة".
وعندما تساءل الکاتب والصحفی المصری المشهور محمد حسنین هیکل فی حوار صحفی أجراه مع السید الإمام فی الضاحیة الباریسیة إیاها عن مصدر التعاظم فی هذه الحرکة الثوریة (قیاسا بثورة مصدق)؟ کان جواب الإمام:" إن الناس الیوم یهتفون بحیاة الإسلام، فی حین کان الهتاف فی ذلک الیوم من اجل النفط؛ فهناک فرق إذا بین أن یقوم الناس بالتحرک من اجل المصالح المادیة وبین أن ینتفضوا فی سبیل الله. کانت الحرکة فی ذلک الیوم حرکة مادیة، أما حرکة الیوم فهی معنویة. لذلک فهی تشبه الحرکة فی صدر الإسلام إلى حد کبیر، ونحن متفائلون بنجاحها".
وهکذا دخل الإسلام إلى معترک الصراع فی واحدة من أهم البلدان ارتباطا بالغرب، البلد الذی عُدّ شرطیّ المنطقة والحارس الأمین لمصالح أمریکا والصهاینة، لیس فقط لإسقاط نظام طاغوتی لا وطنی ولا شعبی؛ بل ولإحداث تحول جیواستراتجی، وإعادة حاکمیة الإسلام فی المجتمع الإیرانی، ومن خلال کل ذلک لیستعید وظیفته التحرریة والاستنهاضیة .
ولا یجادل منصف إن کل مظاهر الصحوة والتدین التی اکتسحت العالم الإسلامی، وُجدت ببرکة حرکة الإمام ونهضته التی سمحت بإعادة اکتشاف الإسلام وقدرته على التحریر والبناء.
ومن هنا ندلف إلى محور الهویة، فلم یکن الإمام یتحدث إلا عن الإسلام الأصیل وعن الأمة الإسلامیة، ولم یستعمل أبدا اللغة المذهبیة بمعناها الضیّق، کان یکرر باستمرار أننا نتحرک ضمن رؤیة إسلامیة، وبحق فقد کان مدى رؤیته یمتد إلى البشریة فی کل مکان "لقد أصبح الإسلام الیوم مدرسة تقدمیة ومتطورة قادرة على تلبیة جمیع المتطلبات الإنسانیة وحل مشاکلها"، وکان التناقض الذی أرساه الإمام تناقض واضح وخال من التعقید، إنّه الإسلام المحمدی الأصیل فی مقابل الإسلام الأمریکی الذی کانت تروّج له بعض الأنظمة الرجعیة، کان سقف الخطاب عالیا، وکان مفهوم الصراع یمتحّ من القرآن روحه ولغته، فإذا هو صراع بین المستضعفین والمستکبرین، وإذا بالإمام یهیب بالمستضعفین بالاتحاد والانتظام فی جبهة عریضة موسّعة لإلحاق الهزیمة بقوى الاستکبار العالمی وقطع دابر هیمنتها على الشعوب ومقدرات الشعوب..کان یقول ومن منفاه الباریسی "..أما الآن، وبعد قیام هذه الانتفاضة، ازداد احتمال أن تقتفی بلدان أخرى أثر هذه الانتفاضة. لیس احتمالا بل هو ما یقرب من الیقین فی أن یتخلص المسلمون من الهیمنة. أتمنى من الله خلاص المسلمین ونجاتهم وتحقیق آمالهم ورغباتهم". إنها حرکة داعمة لقضایا الأمة ولقضایا الإنسان ولحرکات التحرر العالمی.
وإذا کانت الثورة بقیادة سماحة الإمام السید علی الخامنئی تمضی على نفس الأسس والمبادئ والمنطلقات التی أقامها علیها الإمام الراحل، وإذا کان تیّار خط الإمام ومدرسة الثورة لا زالت فاعلة وحاضرة من خلال العدید من المؤسسات والواجهات، فإنّ واقعا مقلقا بدأ فی التنامی حیث استعادت بعض التیارات التقلیدیة المعادیة لأصل قیام الدولة الإسلامیة ومشروعها؛ حیویتها ونشاطها، وأحدثت اختراقا معتبرا یقاس بعودة اللغة الطائفیة واستحکام الرؤى المغرقة فی تمذهبها، وتکثف مظاهر وطقوس الولاء الزائف التی تقوم على إثارة عاطفة العوام بسنّ بدع تسیء للمذهب وتوهن صورته فی الخارج، والعمل على التجییش المعنوی فی معرکة الأوهام مع المخالف أو المختلف فی المذهب..بما یجعل قم مهد الثورة فی بعض تعبیراتها تکاد تکون مختلفة عن زمنها الثوری الأوّل، ومتنکّبة فی بعض مناخاتها؛ بفعل سعی "المتقدّسین"؛ عن نهج الإمام ومشروعه ورؤیته الإسلامیة وأفقه الوحدوی.
إن تخلید ذکرى انتصار الثورة الاسلامیة لا تبلغ مداها فی الوفاء لخط الإمام ونهجه إلاّ برفع الصوت عالیا وفی قم تحدیدا(مهد الثورة)؛ بأن لا رایة یمکن لها أن تطاول رایة الإمام الخمینی(قده)، وبأن لا أحد یمکن له أن یشطب على نهج الإمام أو أن یطوی؛ وهو قاعد فی بیته؛ ما لأجله قام الإمام وثار.و إنّه الصوت الذی یتبعه عمل، (وقل اعملوا فسیری الله عملکم ورسوله والمؤمنون.).