تحتضن مدینة قم الایرانیة وعلى مدى یومین 23 و24 تشرین الثانی/نوفمبر مؤتمر "خطر التیارات التکفیریة من وجهة نظر علماء الاسلام"، وقد دعا الى هذا المؤتمر مرجعین من مراجع التقلید هما آیة الله الشیخ مکارم الشیرازی وآیة الله الشیخ جعفر السبحانی حفظهما الله. ویاتی هذا المؤتمر کتتویج لجهود معتبرة وملموسة تمیز بها هذان العالمان الجلیلان على صعید مواجهة الفکر المنحرف والمتطرف على مدى عقود من الزمن.
ویمکن اعتبار المؤتمر کأول مبادرة جادة للتعامل مع ظاهرة التکفیر التی روعت المسلمین باقترافاتها وصدمت وجدانهم الدینی وأحرجتهم أمام أنفسهم وأمام العالم من خلال عصابة "داعش" الهمجیة وجرائمها المروعة باسم الاسلام ومشروع دولة "الخلافة" المزعومة.
ومؤتمر قم هذا یعد مبادرة سیسجلها التاریخ لهذه المدینة الدینیة، إذ من المفروض أن یستثمر الإعلام الحر هذه المحطة فی المعرکة المفتوحة مع ظاهرة التکفیر کإعلان براءة من الممارسات الإجرامیة التی یتم نسبتها إلى الإسلام، والانتصار للقیم الروحیة والإنسانیة التی جاء بها الإسلام.
ولقد کان مخزیا وفاضحا موقف بعض الهیئات الدینیة التی اکتفت ببعض البیانات المحتشمة والمتذبذبة إزاء مع یتعرض له الإسلام من تشویه وإساءة بالغتین وأمام الجرائم المروعة التی ترتکب بحق المسلمین وغیرهم من اتباع الدیانات الاخرى والاقلیات فی کل من العراق وسوریا. ولا احد یمکنه ان یقدر حجم خسارة الامة من مکانتها ورصیدها الثقافی والدینی، بل ومن اهتزاز الثقة فی الدین بین اوساط شبابها؛ وهذا ما عکسته معطیات مراکز البحوث والدراسات من انتشار مقلق لظاهرة الإلحاد فی بعض البلدان الإسلامیة.
فجریمة السکوت؛ سکوت المؤسسات الدینیة وعدم تحملها لمسؤولیاتها إزاء انتهاک حرمة الاسلام واستباحة دماء المسلمین وغیر المسلمین من دون وجه حق عبر "داعش" واخواتها؛ لا تقل بشاعة وقبحا عن جرائم التکفریین لأن التواطؤ مع الجریمة یعد جریمة قد تتجاوزها أحیانا، فضلا عن خیانة الامانة والتنصل من الواجب والمسؤولیة الشرعیة.
وفی هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن الهیئة التحضیریة للمؤتمر کانت قد أوفدت بعثة قامت بتوجیه دعوات المشارکة فی المؤتمر لعدید من الهیئات والشخصیات الإسلامیة ، وهو ما لم یتجلى للأسف فی مستوى الحضور فی أعمال المؤتمر؛ فلم نلحظ حضورا مناسبا یمثل الأزهر ومکانته، بل والمتوقع منه فی لحظة مصیریة کهذه، کما لم نسجل حضورا ممیزا لرموز الحرکة الإسلامیة من العالم العربی خاصة، وهذا لا یحتمل إلاّ تفسیرا واحدا وهو وقوع هذه الجهات رهینة حسابات طائفیة أوإقلیمیة لن تنفعها شیئا ساعة الحساب بین یدی الله سبحانه.
ومع ذلک فالمؤتمر أحدث الخرق المطلوب فی جدار شلل المبادرات، وهو سیرکز على آلیات عملیة لمواجهة التکفیر وافتتاح ورشات عمل فقهی وفکری وثقافی لمواجهة الظاهرة التکفیریة، لیتکامل جهده؛ کجهد مؤسسة دینیة وحرکة علماء؛ مع العمل المیدانی فی ساحات المواجهة العسکریة، ومع الاشتباک السیاسی بوجه الدول الإقلیمیة التی تدعم الإرهاب وتغذیه.
لکن ما لا ینبغی إغفاله فی موضوع التکفیر، هو أن التکفیر تخطى کونه مجرد ظاهرة فکریة أو ثقافیة؛ وتحول إلى تنظیمات إرهابیة تتلقى دعما دولیا وإقلیمیا تفتَّک لها مساحات وخرائط من جغرافیة الأمة على قاعدة نمط من التدین المتوحش الذی لا یمثل "التکفیر" إلا قوته الدافعة ولیس کل أسسه ومنطلقاته.
کما ولا یجب إغفال المناشىء غیر دینیة أو العوامل "خارج دینیة" لإتساع ظاهرة التکفیر، فالعنصرالتکفیری لیس بالضرورة والحصر هو خریج المدرسة الوهابیة، بل هو أیضا - وبنسبة معتبرة- العنصر المقهور والمهمش الذی أنتجته دویلات القمع والاستبداد وانعدام الأفق طیلة عقود من الزمن، فوجد فی التدین السلفی الوهابی ما یعید إلیه اعتباره، وتمکینه من تصفیة حساب "القهر" بإشهار حکم التکفیر بحق الدولة والمجتمع، وبوجه الآخر الذی یختلف معه فی المعتقد والقناعة.
ولا احد یتصور ان المعرکة مع التکفیر والإرهاب یمکن کسبها دون خلق نقیضها وتنمیته فی فضاءنا الفکری والثقافی والدینی، ونقیض التکفیر لیس غیر "التسامح"، والتسامح مفهوما هو القبول بالآخر واحترام حقه فی الوجود وفی التفکیر، وتقبل حقیقة التعدد والاختلاف فی الرأی، وتدبیر الخلاف مهما کانت حساسیة مادته بالحوار والإقناع. وقد کانت تجربة الإمام الصادق(ع) رائدة على هذا الصعید فی تعاطیه مع ظاهرة الزندقة فی المجتمع الإسلامی حیث ینقل لنا التاریخ والرواة الکثیر من المناظرات التی خاضها الامام الصادق (ع) بعقل هادئ مع الزنادقة وتجدیفهم الدینی . وقبله کان جده أمیر المؤمنین علیه السلام مدرسة فی تدبیر الخلاف العقائدی کما فی تجربته مع الخوارج، فلم یبادرهم إلى قتال ولم یمنع عنهم العطاء وقد أعلنوا معارضته، فحاورهم وبعث من یحاورهم، إلى أن أشهروا السیف، فلزم السیف فی مقابل السیف.
إن "التکفیر" له عمق فی تجربة المسلمین الدینیة والتاریخیة وهذه حقیقة لا سبیل إلى إنکارها، ولیست المشکلة فی أن التکفیر ینشط فی المساحة ما بین المذاهب الإسلامیة کما یتصور البعض، بل المشکلة هی أننا نرصد له أحیانا نشاطا فی الدائرة الخاصة على صعید کل مذهب، ولیس ذلک إلا لضعف التأهیل الدینی على فکرة التعدد والاختلاف وعدم التنبیه من الخطورة الشرعیة فی استسهال تکفیر المسلم.
ولذلک فالحاجة تدعو الیوم؛ وأمام النتائج الکارثیة لظاهرة التکفیر؛ إلى تحریر ثقافة التسامح من حیز الهامش والشذرات، والإنتقال بها إلى ثقافة فاعلة ومؤطرة لسلوکات الحوار والتغایر مع "الآخر" وذلک بعد العمل علیها قرآنیا وروائیا، واستحضار قیمتها فی تجربة نبینا الأکرم (ص) والائمة المیامین من بعده.
ولأن "التکفیر" هو بعض تراثنا، وله دولة –بیننا- تتبناه رسمیا من خلال مؤسستها الدینیة، وتسوّقه کسلعة ربّانیة إلى عوالم البؤس والفقر الواسعة المساحة، وقد غدى ثقافة جاریة تسلک إلى کل عقل عبر منجزات تکنولوجیا "الکفّار"؛ فلا حاجة لأن نرکز على العامل الخارجی إلا بوصفه مستثمرا لسیاق دینی وثقافی ومعرفی قائم من أجل تجزئتنا واستنزافنا فی حروب مذهبیة واستغلال ثرواتنا وتعویق نهضتنا المنتظرة منذ مائة عام.
واخیرا فلا تستقیم المعرکة ضد التکفیر والتطرف ضمن حیز العمل الدینی إلا على وفق معادلة "لا للتکفیر..نعم للتسامح".