بعیدا عن توصیفات "الانقلاب" و "خطف الیمن" الذی وسمت بها الاوساط الخلیجیة والاعلام المرتبط بها کما بعض القوى السیاسیة الخائبة فی الیمن؛ الإعلان الدستوری الذی أعلنت عنه حرکة أنصار الله الجمعة الأخیرة, فإن هذا الاعلان وسواء فی سیاق الإعلان عنه، او فی توضیح أهدافه ودواعیه کما تجلى ذلک فی خطاب السید عبد المالک الحوثی یجعلنا أمام حرکة ثوریة طلیعیّة تنهض بمسؤولیتها التاریخیة إزاء شعبها وإزاء الیمن الذی تقاطعت فیه خیوط المؤامرة الاقلیمیة والدولیة لجعله بلدا ضعیفا فقیرا رازحا تحت سلطة الفساد؛ تعصف به النزاعات القبلیة و التوترات الطائفیة. یمن مهدّد فی وحدته عبر مطالب الإنفصال الجنوبی ویواجه تحدیات تعصف بأمنه واستقراره عبر النشاط الإرهابی لتنظیم القاعدة ذات الثقل فی بعض محافظاته.
فعندما دخل انصار الله العاصمة صنعاء سلمیا فی 21 ایلول/سبتمبر، بعد دعوة الاحتشاد بمسیرات ضخمة "من کل الأحزاب والطوائف"، فقد جاء ذلک بعد عدم تجاوب الحکومة الیمنیة مع مطلب التراجع عن قراراتها الاقتصادیة الخاطئة؛ وخاصة قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطیة؛ وعدم تنفیذ مخرجات الحوار الوطنی التی بقیت حبیسة إرادة التعطیل والتأزیم؛ وهم - أی انصار الله- لم یتصرفوا وهم یسیطرون على العاصمة صنعاء کإنقلابیین؛ بل کحرکة ثوریة ناضجة ومسؤولة تعلی من شأن المصلحة الوطنیة وتجعلها معیارا للموقف وبوصلة للحرکة تنمحی أمامها کل الحسابات السیاسویة الآنیة ومعها المصالح الطائفیة الضیقة. وهکذا وعلى الرغم مع المکتسبات المیدانیة التی حققوها على الأرض، والتی انتهت بسیطرتهم على مفاصل الدولة السیاسیة والأمنیة، وقّـع الحوثیون مع المکونات السیاسیة الیمنیة الأخرى، بما فیها «حزب التجمع الیمنی للإصلاح» و«المؤتمر الشعبی العام» و«الحراک الجنوبی»، اتفاق «السلم والشراکة الوطنیة»، وذلک برعایة الأمم المتحدة، و نصّ اتفاق الشراکة بشکل اساسی على أن یجری الرئیس هادی مشاورات تفضی إلى تشکیل «حکومة کفاءات» فی غضون شهر، ووقف إطلاق النار، و«تجفیف منابع الفساد» وإعادة النظر فی مشروع الأقالیم الستة، وبحسب هذا الاتفاق أیضاً، یعیّن هادی رئیساً للوزراء فی غضون ثلاثة أیام، کما یتم تعیین مستشارین سیاسیین للرئیس من الحوثیین والحراک الجنوبی. کما کان یفترض أن یکون رئیس الوزراء الجدید "شخصیة محایدة لا حزبیة",
وللتذکیر فإن الرئیس الیمنی المستقیل کان قد ألقى کلمة قبل توقیع الاتفاق اعتبر فیها أن «الوثیقة تمثل عبوراً نحو تطبیق مخرجات مؤتمر الحوار الوطنی الشامل، وتجاوز کل العقبات والتحدیات، الأمر الذی یستوجب ضرورة تطبیقها بصورة دقیقة من قبل الجمیع، مع الحرص على البدء فوراً فی وقف إطلاق النار سواء فی العاصمة صنعاء أو بقیة المحافظات والمناطق".
أما على أرض الواقع فالسلطة المتمثلة بالرئیس هادی والمقرّبین منه، حاولت بعد الإنجاز الذی تحقق فی أیلول الماضی، والذی یعتبر انتصاراً لثورة شعبیة، تفریغ الاتفاق ونقض کل ما تم التوصل إلیه، والتصرف على أساس ما کان قبل أیلول 2014، بالاستمرار فی النهجٍ القدیم و کأن "أنصار الله"، لم تقلب موازین القوى بدخولها العاصمة!
وفیما نصّت الاتفاقیة المذکورة على إشراک الحوثیین فی السلطة، اکتفى هادی بتعیین ممثل الحوثیین، صالح الصماد، مستشاراً له، مختزلا مبدأ الشراکة فی مستوى هذا المنصب فقط. وبدل حکومة کفاءات کما شدد الاتفاق فإن ما حصل فعلیاً، هو إعادة تسمیة الفاسدین فی الحکومة الجدیدة التی قاطعها الحوثیون.
غیر أن القرار الأکثر خطورة والذی ادى إلى رد حاسم وصارم من قبل «أنصار الله»، تمثل فی صدور مسودة الدستور الجدید والإصرار على إقرارها، رغم رفض الحوثیین مسألة التقسیم إلى 6 أقالیم، تتیح احتکار الثروة الطبیعیة لمکونات معینة، وتهیء المجال أمام الاستثمار الطائفی لتهدید وحدة الیمن وتماسکه.
وقد حاول الرئیس هادی تمریر مسودة الدستور إرضاءا لبعض الاطراف الإقلیمیة برغم تعارضها ومخرجات الحوار الوطنی، وخرقها لاتفاق السلم والشراکة، خصوصاً لجهة التنصیص على مسألة الأقالیم الستة بمخاطرها الطائفیة.
ولمنع إقرار مسودة الدستور الملغوم ، عمدت اللجان الثوریة إلى احتجاز احمد عوض بن مبارک مدیر مکتب الرئاسة، فیما بدأت بالضغط فی الشارع على الرئیس للتقیّد باتفاق «السلم والشراکة» فی موضوع الدستور. لکن هادی قابل هذه الخطوات بدعوة الجیش إلى الانتشار فی شوارع صنعاء والتصادم مع «اللجان الشعبیة» التابعة للحوثیین، لفرض مشروع الأقالیم بالقوة، ما دفع إلى حصول مواجهات فی محیط دار الرئاسة، بین هذه اللجان، وبین قوات حمایة الرئاسة. وهو ما انتهى إلى السیطرة فی 20 کانون الثانی/ینایر على دار الرئاسة.
ومما یؤکد على أن الغرض من ذلک کله لم یکن السیطرة على رئاسة الجمهوریة أو على السلطة ولا حتى تنفیذ انقلابا عسکریا؛ کما روّجت لذلک بعض وسائل الإعلام؛ هو أن أنصار الله أبرموا اتفاقاً جدیداً مع الرئیس (المستقیل) عبد ربه منصور هادی، لکنه فشل مجدداً، ما دفع الرئیس إلى الاستقالة مع الحکومة. وظل هادی متمسکاً باستقالته، بالرغم من محاولات إقناعه بالعدول عنها کأفضل مخرج ممکن للأزمة.
و بعد فشل المشاورات السیاسیة التی أجراها المبعوث الأممی جمال بن عمر بین مختلف الأحزاب الیمنیة فی التوصل إلى حل للأزمة الناجمة عن استقالة الرئیس هادی وحکومة خالد بحاح. بادر التجمع الشعبی الذی نظمه «الحوثیون» والذی استمر ثلاثة أیام، وشارک فیه حزب «المؤتمر الشعبی العام» الذی یتزعمه الرئیس السابق علی عبدالله صالح وقبائل متحالفة مع «الحوثیین»، إضافة إلى عدد من القیادات العسکریة والأمنیة المتحالفة معهم.حیث أکد البیان الختامی على إمهال القوى السیاسیة ثلاثة أیام للخروج بحل یسد الفراغ القائم فی سلطات الدولة، ملوحین فی حال الفشل بتکلیف "القیادة الثوریة" ترتیب أوضاع الدولة.
وبعد أن تأکد للطلیعة الثوریة؛ أنصار الله؛ إرادة بعض القوى الافادة من حالة الفراغ، کان القرار الثوری هو "الإعلان الدستوری"الذی أصدره الحوثیون یوم الجمعة الماضی. وفی خطاب بث خلال احتفال نظمه الثوار فی العاصمة الیمنیة صنعاء احتفالاً بـ «الإعلان الدستوری» اعتبر فیه السید عبد المالک الحوثی"ان قوى سیاسیة فی البلاد «لم تتعاطى بإیجابیة» مع طرح المجلس الرئاسی لملء الفراغ الناجم عن استقالة الرئیس وحکومته، بل "کانوا یریدون الاستمرار فی الفراغ والتعطیل، لیحملوا الثورة المسؤولیة ویفرضوا علیها الخضوع"، مشیراً إلى أن "الشعب الیمنی أکبر من المؤامرات والدسائس، وهو حر، ویتحرک عندما یرى أنه یجب تصحیح المسار".
وفیما أکد زعیم «أنصار الله» أن "الثورة أتاحت المجال للشراکة، بینما البعض یرید إلغاءها"، حذر بعض القوى السیاسیة فی البلاد من "إثارة أی بلبلة تجاه هذه الخطوة (الإعلان الدستوری) التی أنشأت قوالب للمرحلة الانتقالیة تتسع للجمیع"، ولم یقفل الحوثی الباب فی وجه المشارکة السیاسیة فی المرحلة الانتقالیة المقبلة، قائلاً إن "هناک فرصة حقیقیة للقوى السیاسیة أن تصحح خطواتها، وأن یکون هدفها مصلحة الوطن، ویدنا ممدودة للجمیع"، مشیراً إلى أن "القوى السیاسیة أمام اختبار حقیقی بین تحقیق مصلحة الشعب أو أن تسقط أمام أنانیتها".وختم فی رسالة أخیرة إلى الداخل: "لن نسمح بإستراتیجیة التعطیل، هناک فرصة بتسمیة أعضاء المجلس الوطنی والمجلس الرئاسی، ومن یتعاطى بإیجابیة سنکون أکثر إیجابیة تجاهه".
وأمام هذا السیاق الذی استعرضناه نجزم واثقین بأننا أمام حالة ثوریة استطاعت، وبعد ستة حروب فی صعدة على خلفیة الإقصاء والتهمیش، من أن تنتقل بمطالب جهویة تخص محافظة صعدة إلى النضال من أجل مشروع وطنی دیمقراطی جامع؛ تکون فیه السیادة للشعب ویکون فیه الیمن متحررا من الهیمنة والوصایة السعودیة، وفی الموقع الذی یلیق بتاریخه ورجاله بعدما اقحمته الحکومات الفاسدة والعمیلة ضمن المشروع الامریکی. ولعل هذا هو السر فی قدرة حرکة "انصار الله" فی تجاوز ذاتها وتحولها إلى محور للعمل الوطنی فی بعدیه التحرری والثوری.
والمتتبع لخطابات الحوثی والذی یحرص على أن یقدم نفسه کقیادة وطنیة من أجل الخلاص الوطنی، ولیس کزعیم طائفی کما تحاول أن تظهره بعض وسائل الإعلام الرجعی فی المنطقة، یلمس أن هذا القائد الشاب یتکلم لغة سیاسیة جامعة تتوجه إلى الشعب من خلال التمسک بکل الثوابت التی تتشکل منها الهویة الیمنیة. ویصوغ خطابه السیاسی على أساس من المصالح والطموحات المشترکة التی تعبر عن کل أبناء الشعب الیمنی.
سیستمر الضجیج حول المرحلة الإنتقالیة، لکن الضجیج کما بعض البیانات والمواقف البائسة لن تعید الیمن إلى عهد الوصایة والادوار الصغیرة فی المحور الامریکی.
الاعلان الدستوری هو البوابة السیاسیة لتحقیق اهداف ثورة ینایر 2011 وهو تصفیة حساب ثوری مع المبادرة الخلیجیة التی امدت فی عمر الفساد وکادت تجهض احلام الیمنیین فی إعادة بناء الیمن.