أفاد مراسل وكالة رسا في النجف الاشرف ان إمام جمعة النجف الاشرف سماحة السيد صدر الدين القبانجي بين موقفه حول الأوضاع التي وصلت اليها البلاد، من خلال بحث بعنوان (مراجعة الذات) القسم الثاني حيث تناول سماحته في القسم الاول (الحكومة) وفي القسم الثاني (الحركات الإسلامية)، وجاء في نصه:
بِسْم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: (الذين ان مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)
بفضل الله تعالى تمكنت الحركات الاسلامية في العراق بعد سقوط الطاغية صدام ان تصل الى مواقع متقدمة في الحكم ومن الحق ان نعترف بان:
١- حضورها السياسي الفاعل - بدل الانسحاب والانزواء - فوّت الفرصة على تسلق عناصر النظام السابق او أصحاب الولاءات الاخرى للصعود الى سدة الحكم.
٢- كما كان لنشاطها وحركتها على المجتمع الدولي الدور الكبير في قرار المجتمع الدولي بالتخلي عن النظام السابق.
٣- كما كان لها اليد الطولى بعد فضل الله ومشيئته في إقناع المجتمع الدولي بإقامة نظام سياسي في العراق قائم على أساس الانتخابات وبعيدا عن المعادلة الظالمة الطائفية التي حكمت العراق خلال القرون المتمادية.
٤- كما لا ننسى نضالها قبل ذلك من اجل الإطاحة بنظام الطاغية وتحرير العراق من كابوس البعث ولاننسى الدماء الزكية التي اريقت في هذا السبيل.
٥- وكان دورها كبيرا في صياغة الدستور العراقي بعيدا عن الاملاءات الأجنبية وبالشكل الذي يحفظ نسبيا المشاركة العادلة في الحكم لجميع مكونات الشعب العراقي.
حقا لقد كان لها الدور الكبير في بناء التجربة السياسية الجديدة في العراق فيما كان بالإمكان ان يشهد العراق نموذجا آخر أشبه بما جرى في مصر او السودان او على طريقة تنصيب فيصل الاول العربي الهاشمي حاكما على العراق !!
هذا كله لايعني طبعا انها كانت وحدها في فرض هذه المعطيات بل كان هناك الشعب بكل مكوناته وشرائحه وكانت هناك المرجعية الدينية وكان هناك المنبر الحسيني وكانت الحوزة العلمية وكانت عوامل اخرى.
وكانت هناك قبل كل ذلك ومعه وبعده شفاعة أهل البيت (عليهم السلام) والأذن الالهي بخلاص الشعب العراقي وبدء عهد جديد.
والان وبعد ستة عشر عاما من تجربة الحكم وبعد كل النجاحات والإخفاقات ماذا على الحركات الاسلامية العراقية - ومثلها احيانا غير العراقية في البلدان الاخرى -ان تأخذه من الدروس وتستفيده من العبر والتجارب؟؟
لا شك ان هناك إخفاقات كثيرة ولا عيب ان نعترف بها وكما قال الامام علي (عليه السلام): (ليس كل طالب يصيب ولا كل غائب يعود) والعصمة لله وحده ومن عصمهم الله.
واليوم إذا أردنا النجاح فعلينا دراسة تلك الإخفاقات والأخطاء والابتعاد عنها وعدم الإصرار عليها ولا تخدعنا أنفسنا بان الخطأ في غيرنا وليس فينا ولنكن كما قال الامام علي (عليه السلام): (من نظر في عيب نفسه شغل عن عيب غيره.(
و( إعجاب المرء بنفسه يدل على ضعف عقله).
وفيما يلي اشارة الى بعض الخطوات التصحيحية اللازمة.
اولا: ان اول مايجب علينا جميعا ان نفعله هو الانتقال من مقولة (جئنا لنحكم) الى مقولة (جئنا لنخدم) فالحكم ليس هدفا إنما هو وسيلة والهدف هو خدمة الناس.
ولعل المقولة الاولى (جئنا لنحكم) كانت وراء جميع الأخطاء والإخفاقات التي أدت الى الابتعاد عن الجمهور.
وهنا نستذكر مقالة الامام علي (عليه السلام): (اللهم انك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماسا لشيء من فضول الحطام وإنما لنري -لنرد- المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك).
ثانيا : علينا ان نزرع في أنفسنا الثقة بالشعب العراقي في وعيه السياسي وهويته الدينية بل علينا ان نعرف ان (هذا العصر هو عصر الشعوب) و(ان الشعب هو الأكثر وعيا من النخب) كما كان يقول الامام الخميني (قدس سره).
فيجب الابتعاد عن ثقافة الاستعلاء على الجمهور والنظرة الدونية له والتشكيك بوعيه السياسي وهويته الدينية بحيث نفترض أنفسنا القيمين على الشعب والاصوب منه رأيا والأنضج منه وعيا.
لقد راينا في مجمل حراك شعبنا انه الأعمق دينا والأنضج سياسيا.سوف تختلف طريقة تعاملنا مع الجمهور اذا غيرنا قراءتنا وتقييمنا له. وعلى هذا فلا يصح منا - كمنهج - التسلق على الفعاليات الشعبية ومحاولة اختراقها ثم الهيمنة عليها بحجة العمل على هدايتها وتصحيح مسارها. هذا المنهج الذي يجعل الجمهور - احيانا كثيرة -يتعامل بحذر مع الحركات الاسلامية.
ثالثا: علينا ان نعرف ونؤمن بان المرجعية الدينية ومؤسستها الدينية (الحوزة العلمية)هي الأكثر وعيا سياسيا كما دينيا والأقدر على ادارة رحى المعركة ونبتعد عن ثقافة تسيير المرجعية واعتبارها واجهة للعمل الحركي. بل يجب ان ننظر اليها ونتعاطى معها بروح التبعية والتقليد في الموقف السياسي كما في الموقف الفقهي وكما كان يقول شهيدنا الصدر قدس سره: (المرجعية هي الحصن الواقي من كثير من ألوان الضياع والانحراف) و (المرجع هو الشاهد على حركة الامة).
وكما قال شهيد المِحْراب ( قدس سره): ( انا خادم لمراجع الدين واقبل أيديهم واحدا واحدا ).
ان هذا النمط من الفهم لموقع المرجعية سوف يفرض علينا تغيير الكثير من سلوكياتنا في التعاطي مع علماء الدين ومراجع الامة.ويكفينا شاهدا على ذلك الدور العظيم الذي قامت به مرجعية الامام السيد السيستاني في حل ازمات العراق.
رابعا : لابد من العمل وفق منظومة ثقافية واخلاقية جديدة تختلف عن منظومة ايام المعارضة المتمثلة بالصبر على السجون والإعدام وظروف الهجرة والمحافظة على السرية البالغة والأسماء الحركية والنشرات المغلقة والحلقات الخاصة والحذر من الاخر والتعامل معه بروح الشك واعتبار الكيان السياسي هو المثل الاعلى والتنافس السلبي مع الاصدقاء للامتداد في مساحات العمل وأمثال ذلك حيث كانت هي المنظومة الاخلاقية التي تتعاطاها الحركات الاسلامية في الغالب.
اما اليوم فان علينا ان نتعاطى اخلاقيات اخرى:
*الوضوح بدل السرية.
*المصالح الوطنية بدل مصالح المعارضة.
*الإخلاص في الأداء المهني الوظيفي بعيدا عن الاستئثار الفئوي.
*الزهد في الدنيا وقصورها وأمجادها الكاذبة.
* التعاون مع الاخر لبناء الوطن وليس التنافس معه وضده.
* القيادات الحركية يجب ان تكون بمثابة القدوة الصالحة لعموم أبناء الشعب وخاصة الطبقات الفقيرة من حيث السكن والثروة والابتعاد عن سائر مظاهر الترف.
* الابتعاد عن ثقافة بناء الدولة العميقة للسيطرة على مفاصل الدولة فهذا يتنافى مع الإخلاص الوطني و منح الفرص بالتساوي لذوي الكفاءات.
اننا اليوم بحاجة الى تعميق ثقافة الزهد في المواقع الحكومية طلبا للدنيا وكما جاء في الحديث النبوي الشريف: (ستحرصون على الامارة ثم تكون عليكم حسرة وندامة فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة(.
اننا بحاجة الى تعميق ثقافة (إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك) كما جاء في الحديث عن الامام علي (عليه السلام(.
اننا بحاجة الى تعميق ثقافة تقديم الخدمة للجميع بعيدا عن الانتماء كما قال الامام علي (عليه السلام): (ليكن احب الأمور اليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها للرعية).
هذه الثقافات هي التي يجب ان تحكم عناصرنا القيادية والوسطية لتكون قدوة صالحة للقواعد الحركية والشعبية،فهل نحن كذلك؟؟
اننا بحاجة الى اعتماد الكفاءات وليس الولاءات او المحسوبيات والمنسوبيات كما قال الامام علي (عليه السلام): (لا يدعونك شرف امرئ الى ان تعظم من بلائه ما كان صغيرا ولا ضعة امرئ على ان تصغر من بلائه ما كان عظيما).
خامسا: ان أبناء الحركات الاسلامية يجب ان يكونوا الأكثر التزاما بالقانون كما الأكثر التزاما بالشرع. فلا يجوز - مثلا - طلب الفوز الانتخابي او استحصال موقع حكومي عبر التزوير او عبر دعاية كاذبة او شهادات مزورة او استخدام أساليب الترهيب والترغيب او اعتماد الرشاوى وما شاكل ذلك. فالفوز هنا قد ينجح لايام معدودة لكن الشعب سرعان مايكتشف الحقيقة ويلقي الجميع في المزبلة. ولنكن كما قال امير المؤمنين (عليه السلام ( أتأمروني ان اطلب النصر بالجور؟ اما والله لا اطور به ما سمر سمير وما أمّ نجم في السماء نجما).