ألقى السید جعفر فضل الله، خطبتی صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامین الحسنین فی حارة حریک، فی حضور عدد من الشخصیات العلمائیة والسیاسیة والاجتماعیة، وحشد من المؤمنین، ومما جاء فی خطبته السیاسیة:
"یمر الواقع الإسلامی فی هذه المرحلة فی حلقة خطیرة وغیر مسبوقة، لأن التحدیات لا ترتبط بصراع سیاسی وأمنی فحسب، وإنما طفا على سطحها بعد عقیدی فقهی فکری، بات یهدد، لیس الطرح الإسلامی للحکم والدولة فحسب، وإنما الإسلام کدین، وکخیار حضاری یمکن أن یرقى فی تجربته إلى قیادة الحضارة الإنسانیة على أسس صحیحة".
أضاف: "ومما یؤسف له أن من العوامل التی أوصلت الأمور إلى ما وصلت إلیه، أننا کمسلمین استغرقنا خلال العقود الماضیة بصراعاتنا فی ما بیننا، واستنزفنا طاقاتنا على التجییش ضد بعضنا البعض، باسم الحالة المذهبیة تارة، والحالة القومیة أخرى، والحالة الحزبیة ثالثة، وما إلى ذلک من انقسامات، وخلدنا الهزائم التی منینا بها ضد أعدائنا واحتفلنا بها، وتنکرنا لکل الانتصارات التی حققناها ولم نبن علیها، وکان الشغل الشاغل لکثیر من المثقفین ورجال الدین هو کیف ینظرون لکل هذا الوضع السیاسی المتأزم، عبر الإعلام والنشر والفتاوى وما إلى ذلک، لا کیف یؤسسون للمستقبل ومواجهة تحدیاته؛ حتى بتنا أمة مفککة الأوصال، سهلة لکل طامع، وساحة لکل محتل".
وتابع: "لقد ترکنا کمسلمین کل عناصر قوتنا، حتى أوصلنا الأمور إلى الاستعانة بالمستکبرین، الذین أطلقوا عنوان محاربة الإرهاب کأساس للدخول إلى مناطقنا عبر الطائرات التی تقصف، وعبر الجیوش التی تحتل، وبدأوا - بشکل غیر مباشر - یهیئون الأرضیة للنفاذ إلى مناهجنا لیستبدلوا بها غیرها بما یتناسب مع مصالحهم ومنهج تفکیرهم، تحت منطق عجزنا وضعفنا عن اجتراح الحلول لأنفسنا. ومن یرفض فسیکون مع هذه النماذج التی وضعت فی دائرة الإرهاب".
ورأى "ان ما یجری الیوم هو حرب على ذهنیة الأمة ولیس حربا على الإرهاب عسکریا وأمنیا وسیاسیا فحسب، وإنما هو حرب على صورة الإسلام الحضاری، وتکریس لصورة مشوهة وحشیة، تجعل من الإسلام مسخا ینبغی القضاء علیه، حتى وجدنا أن "إسرائیل" القائمة على الإجرام والعنصریة أصبحت تزاید فی هذا الأمر".
وسأل: "ما معنى أن یجری ربط الإرهاب بالإسلام؟"، وقال: "هذا بدأ منذ عقود، وکان هناک إصرار على عدم تقدیم تعریف واضح لمفهوم الإرهاب؛ لماذا؟ ما معنى أن یربط مفهوم الخلافة الیوم بممارسات وحشیة لا تمت للإسلام بصلة؟ ما معنى الحدیث الاعتباطی عن عدم الفرق بین حرکات المقاومة فی العالم الإسلامی وبین المنظمات المفسدة فی الأرض؟ والیوم: ما معنى أن یتم الربط الیوم بین مفهوم "الدولة الإسلامیة" وبین الوجه الوحشی العنفی الذی لا یمت إلى البعد الإنسانی بأی صلة؟
هل المراد أن یؤسس - تحت ضغط الإعلام والصور المتلاحقة - للحرب المقبلة التی سیکون صریحا حینها عنوانها: الحرب على الإسلام؛ لأنه لم یعد فی أذهان الناس من فرق بین الإسلام وبین الإرهاب ویتم من خلال ذلک الخلط بین کل التجارب الإسلامیة، سواء فی العقیدة أو الفکر أو فی بناء الدولة أو ما إلى ذلک".
واضاف: "إن المشهد الإسلامی بالغ التعقید، فمن الأمة من لا یدرون ماذا یفعلون ومنهم من لبس لبوس الإحباط أو التعصب حتى أعماه ذلک عن فهم ما یجری! ومنهم من یعرف أنه یخدم مخططات کبرى! وحکام وحتى رجال دین لا یفکرون بشیء اسمه عالم إسلامی ومشروع إسلامی حضاری، وأعداء یتربصون بنا الدوائر".
وتابع: "إننا نعتقد أن العالم الإسلامی قادر - لو تکاتفت جهوده - على حل مثل هذه المشکلة، ولکنه العالم الإسلامی نفسه فی أزمة: أزمة عقل ومنهج، وأزمة علاقات وأخلاق، وأزمة هویة حضاریة، وما هذه الظواهر التی نجدها الیوم سوى أحد إفرازات تلک الأزمة".
وقال: "إننا نعتقد أن على الفصائل الواعیة فی الأمة أن تتحرک فی خطین إذا أردنا،
الخط الأول: إبقاء العین مفتوحة على مخططات الاستکبار العالمی، والذی یتداعى إلینا الیوم کما تتداعى الأکلة إلى قصعتها، وإبقاء کل أوراق القوة فی مواجهته حاضرة لاستثمارها فی أی وقت، وهذا ما یفترض أقصى درجات الإعداد والتعاون بین مکونات الأمة، بغض النظر عن اختلافاتها وتبایناتها الحالیة. الخط الثانی: الخط الفکری والثقافی الذی لا یستغرق فی ما یجری فی اللحظة الراهنة، بل أن یعمل من أجل تحصین الساحة الإسلامیة، ومواجهة کل التحدیات الفکریة والثقافیة التی تواجه أجیالنا الحالیة والمقبلة، حتى نؤمن الأرضیة التی نملک فیها تحویل أی تحد إلى فرصة للقوة والنصر والتقدم فی قیادة الأمة. وهذه لیست مسؤولیة رجال الدین فحسب، وإنما هی مسؤولیة الجمیع. لقد قال الله تعالى: (وما کان المؤمنون لینفروا کافة فلولا نفر من کل فرقة منهم طائفة لیتفقهوا فی الدین ولینذروا قومهم إذا رجعوا إلیهم لعلهم یحذرون)؛ وفقه الدین هو فقه کل ما تحتاجه الحیاة، فی بنائها الحضاری، وقیمها الرسالیة. المسألة هنا تشبه النفیر العام، ولیس لأحد أن یستبعد أحدا، تحت أی اعتبار. المسلمون بکل ألوانهم مسؤولون".